بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، يناير 13، 2017

الحاج.. صاحب القناة قصة حقيقية لم تحدث أبداً



الحاج.. صاحب القناة
قصة حقيقية لم تحدث أبداً


"دقائق و نكون على الهواء"
  العبارة التي نعتبرها كدقات المنبه. نسمعها كل يوم في نفس الميعاد. نسمعها فيستيقظ كل شيء داخل الاستوديو، ليس البشر فقط، بل قبلهم.. المعدات. الكاميرات تحسها و كأنها تفيق من غفلة، و الإضاءة كمن يتثاءب إثر يقظة من ثبات عميق. حتى باب البلاتوه السمين الأمين ينفرج فجأة لينبعث ضوء الخارج الذي يبدو – للغرابة – أقوى من إضاءة الاستوديو رغم أن الواقع خلاف ذلك تماماً.
  من خلال ذلك الضوء الساطع تنبعثُ امرأة ككيان ظليٍّ.. تتقدم و في خطوها هيبة و جلال ملكة.. تقطع المسافة بين الظل و النور لتظهر بغُنْج و دلال جاريةٍ في قصر أميرٍ قديم.
  ثقتها تهبها جمالاً، أم جمالها يهبها ثقةً.. لا يهم. المهم أنها تعرف أن كل شيء هنا مسخرٌ لها، حتى أولئك المتهامسين بعيداً عن الضوء، و الذين تعرف أنهم يلوكون سيرتها، و لا يملون من طرح تساؤلاتٍ لن يحسموا إجاباتٍ لها أبداً عن علاقتها بصاحب القناة. الحاج الذي جاء فجأة ليشتري القناة بالعاملين فيها و يقدم ذلك كله هدية ثمينة للمذيعة التي تحولت بين ليلةٍ و ضحاها من موظفةٍ عادية إلى نجمةٍ متألقة و سيدة أولى – و أخيرة – للقناة.
-         خمسة.
  يزعق مساعد المخرج أو من يسمونه ( مدير الأرض ) معلناً بدأ العدِّ التنازلي لخروج البرنامج على الهواء، لكنه – كالعادة – لن يواصل العد سريعاً؛ سيعطي فرصة ليكون كل شخصٍ في مكانه. هو مدرك تماماً أن الكثيرين ليسوا في أماكنهم. أولهم المخرج الذي – ككل يوم – يدخل حالاً متسللاً، و يقف إلى جوار أحد المصورين ليبدو و كأنه يوجهه لشيءٍ ما.. طبعاً، الحركة مصطنعة و قديمة يدركها الجميع و أولهم المذيعة التي يريد إيهامها بأنه داخل الاستوديو منذ فترة طويلة يباشر مهامه. هي بالتأكيد تعرف و تفهم اللعبة، و هو يعرف أنها تعرف، لكنها تمثيلية كل يوم التي اعتدنا جميعاً التواطؤ لأدائها أو لمساعدة المؤدين في تجسيد أدوارهم.
  كلنا يعرف أن السيد المخرج لن يعاقب أو حتى يسأل عن تأخره. ليس لشيء إلا لأنه يعرف الكثير من الأسرار، لا أسرار المهنة، بل خفايا صاحب القناة و سيدة القناة الأولى.
  أيضاً هي – السيدة التي تعتلي بؤرة النور حالياً – تمسك بيدها مفاتحه، تعرف أنها ربة الفضل بالنسبة إليه. حولته من مجرد شخصٍ يحمل الحقيبة و يوسع الطريق أمام الحاجِّ إلى المخرج الأول في القناة ( طبعاً بعد أن أزاحت من وجهه و وجهها المخرج السابق الذي اعتاد معارضتها و فرض رأيه و وجهة نظره في كل أمور البرنامج ) هكذا أصبح بالنسبة لها الشخص المثالي لتولي زمام الأمور دون أن تفلت من يدها أمور الزمام.
-         أربعة.
  صاح مدير الأرض و هو يجول بنظره في الاستوديو ليتأكد من أن الجميع سمعوا نداءه. ينسحب – بهدوءٍ – فنيو الصوت و الإضاءة بعد أن تأكدوا من أن أدواتهم تعمل بشكلٍ جيد. تلاهم المخرج الذي حرص قبل مغادرة البلاتوه إلى غرفة التحكم أن يهمس في أذن المذيعة – غالباً – ببعضِ النكات. يفعل ذلك كل يوم، يخبرها بأطرف ما سمعه اليوم؛ فتبتسم أو تضحك و تكتم ضحكتها بأطراف أصابعها.. اعتدنا تزامن إنعكاس الضوء على بعض الحلي الذي يملأ يدها مع صوتها و هي تقول له:
-         الله يجازي شيطانك.
  يبتسم هو ابتسامة النشوان لأداء مهمة شاقة ثم يغادر.
  لم يبق في الاستوديو إلا عناصر اللحظات الأخيرة قبل الهواء. المذيعة تكاد تشع لكثافة الضوء المسلط عليها، و في المنطقة المظلمة المصورون كأنهم من بعيدٍ أشخاص بأجسادٍ نحيلةٍ لدى كلٍّ منهم عينٌ ضخمةٌ للغاية. أيضاً خلف كل شيءٍ مختص الصوت الذي بالكاد يُرى في ظلامِ المكان.. بالقرب منه مدير الأرض و هو أيضاً في هذه اللحظة لا يراه أحدٌ إلا بصوته.. يصيح:
-         ثلاثة.
  الآن، كلُّ شيءٍ جاهزٌ. كلُّ شيءٍ معتادٌ، كلُّ شيءٍ يقود إلى منازل المشاهدين. لكن فجأة، و كما يحدث في الأفلام التجارية يتجمد الزمن. فجأة ينفتح باب الاستوديو و نفاجأ بصاحب القناة يتهادى بجسده البدين مقتحماً الاستوديو و خلفه واحدٌ من مساعديه يحمل بإحدى يديه كرسياً خشبياً، و بالأخرى نرجيلة.. نعم، نرجيلة يلمع الفحم متقداً في أعلاها مع بعض الدخان و رائحة المعسل البلدي تنتشر سريعاً.
  خلفهما، دخل مهرولاً حارس أمن. يظهر أنه حديث التعيين لأن أحداً لم يكن يعرفه. كان يتحدث إلى الحاج بصوتٍ متهدجٍ و لكنةٍ فيومية لا يخطئ التعرف عليها سكان أكتوبر و زايد:
-         يا حاج، والله ما ىنفع هذا.. هكذا ستقطع عيشي.
  لم يجبه الحاج، لكن مساعده سارع بصلفٍ يرد:
-         ألا تعرف من هذا؟! إنه صاحب القناة.. كل عيش.
-         يا باشا على رأسي، لكنها الأوامر.. هذا ممنوع.
  رمقه الحاج بتفحُّصِ مقاول يستعدُّ لتوبيخ أحد صبيانه، ثم قال بلهجةٍ حاسمة و لكنةِ عامل بناء صعيدي عاد لتوه من الخليج:
-         أتعرف كم أدفع إيجاراً لهذا المخروب؟
  تأمل وقع كلماته على الحارس الغلبان ثم عقب:
-         أتريد أن تعلمني كيف أتصرف في ملكي؟!
  لم يبدُ حارس الأمن كشخصٍ سيحارب من أجل نفاذ القانون أو احترام القواعد، هو فقط – بينه و بين نفسه – يلعن الحظ العاثر الذي جعله واقعاً في هذا المأزق في أول يوم عملٍ له. ما كان يقلقه فعلاً أنه لا يستطيع تقدير عقبات التساهل، لو كان يعرف دية القتيل لقتله.
  في هذه اللحظة اندفع المخرج داخل البلاتوه متسائلاً عما هناك يعطل الهواء. اندفاعه لم يمنع عينه من تفحص الموقف لتقدير ما يمكن فعله و ما يجب التجاوز عنه. توجه أولا إلى الحاج و رحب به فهز الأخير رأسه دون أن يلتفت.. الحارس هو من نظر إليه راجياً أن تكون لديه القدرة أو الرغبة ليفصل في الأمر، لكن المخرج بادره و هو يربت على كتفه:
-         أنت ما اسمك؟
-         أحمد.
-         طيب، يا أحمد، من الممكن أن نحل هذه المشكلة في الفاصل. أنت الآن تعطل الهواء.
-         أنا؟! أنا؟! لست أنا من يعطل الهواء.
-         دعنا من هذه التفاصيل، سنناقشها فيما بعد.
  كان المخرج يتحدث بثقة و كأن كلماته ستنهي كل شيء، لكن الحارس تشبث بموقفه:
-         يا باشوات كلكم على رأسي. لكن الباشا اللواء مدير الأمن الصناعي مرَّ من ساعة فقط و أكد أن لا يدخل الاستوديو أي شيءٍ يمكن أن يؤدي إلى حريق، و هذه شيشة، يعني فحم، يعني نار.. أنا في النهاية مَن سيعاقب.
  خاب سعي المخرج لكنه لم يفقد الأمل، توجه إلى الحاج مستعطفاً:
-         يا حاج، ألا يمكن أن نستأذن سعادتك أن تتفضل و تشرفنا في صالون كبار الزوار لتستطيع متابعة العمل على الهواء من الشاشة الضخمة هناك.
  ازداد العند في لهجة الحاج و قال بلهجة قاطعة:
-         أنا لست من كبار الزوار، أنا من كبار الملاك، و أنا أراقب العمل في قناتي، من هنا، من موقع العمل.. و أشرب شيشتي على أرضي التي أدفع الملايين لاستئجارها، ليس ليعلمني مجرد بواب يقبض راتبه من فلوسي كيف أتصرف.
  الأمر يزداد تأزماً، و الهواء تأخر أكثر من خمس دقائق. الكنترول يعيد و يزيد في فواصل لامعنى لها، و داخل البلاتوة الكل يرقب في صمت.. المذيعة في مكانها تتظاهر بأنها تراجع الاسكريبت، و المصورون – في الظل – يتابعون عن كثب ما يحدث دون أن يغامر أحدهم بالتدخل، كأن الأمر لا يعنيهم. مدير الأرض يمثل أنه يراجع شيئاً ما مع مختص الصوت حتى لا يصبح طرفاً في المشكلة، رغم أن ما يحدث فعلياً على أرضه من صميم عمله؛ لكنه أيضاً لا يرغب في فقد وظيفته. أخيراً المخرج.. لم يفقد الأمل.. المخرجون عادة لا تثبط عزائمهم أبداً، إلا عندما يقررون التقاعد.
-         لكن، يا حاج، ألا ترى سيادتك أن دخان الشيشة سيؤثر على جودة الصورة؟
  جال الحاج لحظة بنظره على المصورين، ثم حدج المخرج بنظرة منتصر متسائلاً:
-         أنتم، ألا تصورون مسلسلات؟! عندما تظهر الشيشة في الصورة، هل تكون بغير دخان؟
-         لكن، يا حاج، هذه تكون ضرورة درامية. هذه تكون ظاهرة في الكادر بذاتها، لا دخاناً فقط.
  فجأة نهض الحاج متجهاً مباشرة نحو النور. وقف إلى جوار المذيعة، و في لمح البصر لحقه مساعده بالنرجيلة و الكرسي الخشبي ليضعه في قلب الديكور، و يجلس الحاج وسط دهشة الجميع. يتناول طرف اللَيِّ، و يسحب من المبسم نفساً عميقاً ثم ينفثه معبئاً المكان بدخانٍ كثيف، ثم يقول في تحدٍ للجميع:
-         ما رأيك إذاً في هذه الضرورة الدرامية؟
  لم يبدُ أن أحداً فهم قصد الرجل؛ فعقب:
-         سأكون أنا و شيشتي موضوع حلقة اليوم.
  نظر إلى المذيعة مداعباً:
-         لا تقلقين؛ سأكون ضيفاً لا مذيعاً.
  ابتسمت الحسناء و كأن الأمر لا يعنيها، أو على الأقل لم تبدُ الفكرة شاذة بالنسبة لها.. تفحصت الوجوه الواجمة حولها ثم استقرت في عينها عين الحاج و ابتسامته العريضة. بدا الرجل في هذه اللحظة طفلاً يلهو بلعبةٍ جديدة. هو سعيدٌ باللعب حتى لو أثار في سبيله سخط الجميع. لا يهمه إن قالوا عليه "غلس" لأنه غلس بالفعل، و الآخرون مضطرون لقبول غلاسته على أي حال.
-         والله فكرة.
  قالت المذيعة ذلك و هي تقرأ الوجوه الواجمة حولها. لم يُبدِ أحد رد فعل حتى فوجئ الجميع بمن يصيح:
-         كيف؟!
  كان ذلك رئيس تحرير البرنامج الذي لم يلحظ أحدٌ وجوده إلا عندما تكلم، و يبدو أنه لم يتكلم إلا عندما فاض كيله و طفح.
-         عندنا اليوم برنامج مشحون، انظروا.. قرارات.. حوادث.. مظاهرات.. إنفجارات.. إرهاب.. حروب.. أزمات.. لا يمكن الاستغناء عن فقرة واحدة حتى.
  الحاج كأنه لم يسمع شيئاً. بقي على كرسيه يدخن شيشته السخية.
  غمزت المذيعة للمخرج أن تصرف؛ فقال كأنه وجد حلاً:
-         يعني.. يمكن أن تكون فقرة ظريفة في بداية الحلقة. لقاء مع صاحب القناة، ثم نواصل فقراتنا كالمعتاد.
-         ظريفة؟!
  حدجه رئيس التحرير بنظرة فيها كل معاني الحنق و الغضب و التعجب.
-         كيف هذا؟ أنت تعرف.. أنا عندي أوامر.
  عندي أوامر.. عندي أوامر.. هذا التعبير مألوفٌ لنا. دائماً هناك من عنده أوامر، لكن من أين تأتي؟ لا أحد يعرف. المفترض أن كل من بيدهم عقدة الأمر في القناة موجودون أمامنا الآن في بؤرة النور، لكن التفاتة بسيطة جعلت عيون الجميع تتجه إلى الزجاج الذي يفصل البلاتوه عن غرفة التحكم. هناك كان شخص لم نستطع تبين ملامحه، لكن هيئته الصارمة و بنيانه الضخم يكسبانه مظهر أبٍ أمام أطفاله يوبخهم.
-         من هذا؟!
  لم يجب أحدٌ. ربما هزَّ أحدهم كتفه أو مط شفتيه بإشارة تعني"لا أعرف". في لحظات قادت الأرجل أصحابها مطأطئي الأرؤس منحنيي الظهور مغادرين دون أن تنبس شفة بكلمة. حتى صاحب القناة الذي يدفع الملايين إيجاراً للاستوديو و يصرف من جيبه رواتب الجميع؛ انسل خلف مساعده، و اختفى حسه تماماً ليظهر صوت مدير الأرض أخيراً مجلجلاً يصيح:
-         أربعة، ثلاثة، اثنين، واحد.. على الهواء.
-         أعزاءنا المشاهدين.. أهلاً بكم معنا.. على الهواء.
أحمد صلاح الدين طه
يناير 2017

إعلانات مدمجة

مشاركة مميزة

٣٠ يونيو أخر موعد لإستقبال سيناريوهات مسابقة ممدوح الليثي بالإسكندرية السينمائي

  أعلنت إدارة مهرجان الإسكندرية برئاسة الناقد السينمائي الأمير أباظة في وقت سابق عن فتح باب إستقبال السيناريوهات للمشاركة بمسابقة ممدوح اللي...

سيعجبك أيضاً إن شاء الله