مرحبًا بكم في ديدالوم مجمع الفنون

منصة الفن والأخبار الثقافية الرائدة

أحدث الأخبار والمقالات

الثلاثاء، مارس 11، 2025

حديث الصمت.. أيقونة علي الغزولي المنسية

علي الغزولي,حديث الصمت, DOCUMENTARY FILM,وثائقي،الوثائقية,تسجيلي,

 

  كلما ذُكر المخرج الملهِم علي الغزولي كان مرادفًا لاسمه الفيلم التسجيلي الأكثر شهرة وهو صيد العصاري الذي كان وما يزال بالنسبة لأجيال عديدة يمثل نوعية شديدة التميز من السينما. أمام سطوعه يغيب عن الكثيرين تذكر عدد كبير من أفلام الغزولي التي تصل إلى خمسة وثلاثين فيلمًا. يصعب في المجمل تصنيفها إن كانت تسجيلية أم تخييلية. عادة يشار إليها بمصطلح (دكيودراما) والهدف من توظيف هذا المصطلح هنا فقط الإشارة إلى أن الفيلم خليط من الدراما والتوثيق، لكني أميل إلى اعتبار أفلامه تُعلي مفهوم السينما الخالصة؛ فالفيلمُ -أي فيلمٍ- كمنتج فني يحوي عادة بالإضافة إلى فن السينما فنونًا أخرى ملتحمة معه، يمكننا تمييزها بوضوح عن السينما التي هي فن الصور المتحركة (الصورة، والإيقاع)، هذه الفنون هي القصة والحوار والأداء التمثيلي.

  في (السينما الخالصة) يتم تجريد السينما نسبيًا من الفنون الموازية لتعود كما كانت فنًا سابعًا للفنون الستة التي سبقتها والتي تنقسم إلى ثلاثة فنون مكانية (الرسم والنحت والعمارة)، وثلاثة فنون زمانية (الموسيقى والشعر والرقص). جاءت السينما تالية لهم لتضم خصائص القسمين فتصبح فنًا مكانيًا وزمانيًا معًا، وبعد ظهورها جاء الفيلم كمنتج فني مركب يضم السينما والفنون الأخرى.

  (حديث الصمت) فيلم مؤلَّف.. أخذ من السينما التسجيلية الصدق لكنه ليس صدق الواقع البحت؛ إنما صدق الأحلام التي تستطيع أن تنقلك بأمانة مطلقة إلى عالم الخيال الذي ترتدي فيه الأشياء والأحداث والأشخاص زيًا أسطوريًا لكنها تبقى ذات أصل واقعي.

  ما يميز هذا الفيلم أنه لم يَعُدْ يوثق مكانًا ولا زمانًا ولا شخصًا أو أشخاصا بعينهم، إنه يوثق روحًا.. يقدم هُوية الإنسان المصري التي تجمع مكونات عديدة لا يمكنك أن تصل إليها لو حملت كاميرا وذهبت إلى مكان معين؛ لذلك كان على المخرج أن يؤلف الأشخاص مع الأماكن مع الأحداث، يؤلف الصور مع الأصوات تمامًا كما يحدث عند صناعة أي فيلم روائي (تخييلي) لكن الفيلم يوهمك أنه فيلم وثائقي، وإن كان صانع الفيلم للأمانة ينبهك في العنوان (في تترات البداية) إلى أن الفيلم (دراما تسجيلية) وهو وصف لم نعتد أن نراه يسبق عنوان أي فيلم. المُشاهد في العادة يعرف أن الفيلم إما درامي أو تسجيلي أو في ظروف محدودة هجين، أما أن يكون الفيلم دراما لكن صانعه يصف هذه الدراما بأنها تسجيلية فهذه رؤية جديدة يمكن أن توضح لنا ما الذي كان الغزولي يريد أن يكونه فيلمُه.

  في بنية دائرية تنتهي حيث تبدأ نتابع وصول شخص ما إلى إحدى الواحات دون أن نعرف هُويَة الشخص ولا المكان الذي يصل إليه وفي آخر الفيلم نراه مغادرًا عائدًا إلى عمق الصحراء ولا يخبرنا الفيلم لماذا أتى الرجل ولا ماذا فعل، فقط نتابعه قادمًا من عمق الصحراء يجر حمارًا محملًا بجرار عديدة في أحدها ماء يطفئ به ظمأه. ربما هو تاجر يرتحل بين القرى والنجوع أو بالأحرى الواحات، يبيع الجرار أو ما داخل الجرار وربما هو مهاجر لسبب أو آخر؛ لا يحسم الفيلم الأمر. كل ما نراه أن الغريب عند قدومه يثير ذعر مجموعة من الصبية الذين يحلبون معزة ويستمتعون بشرب حليبها الطازج. يفرون خوفًا من الرجل الذي يبدو لهم عملاقًا لا يتبينون وجهه لأن الشمس خلفه تزيده غموضًا وهيبة. نتابع بعد ذلك أحد الصبية وهو جالس على سور يطل على نبع ماء ويسمع صوتًا فينتبه ليرى فتاة تخرج من تحت الماء؛ يصيبه الذعر ويهرب. بعد ذلك نتابع لقطات لعمارة القرية أبنيتها وشوارعها الخالية وتفاصيلها غير الحية، ثم تتوالى مشاهد مرتبطة بزفة حاج، عائد من الحج أو ربما مغادر إليه، لكن حالة احتفالية تشمل جميع سكان القرية يحوطونه في مسيرة بين الشوارع والدروب، والصبية يلحقونهم والبنات الصغيرات تتجمعن أمام أحد الدور ترقصن وتغنين مبتهجات. بينما أحد الرسامين ينقش كتابات ورسوم مرتبطة بالحج على جدران منزل، والنساء تتعاونَّ في إعداد الطعام ترحيبًا بالمهنئين، وأخيرًا نعود للنبع وفتاة النبع والصبي الصغير الذي رأيناه يهرب عندما لمحها أول الأمر، يعود الآن متلصصًا يراقبها وهي تخرج من الماء غافلة عن عينيه اللتين تتمليان في جمالها شغفًا أو ربما فضولًا يقطعه صوت أصدقاء الصبي ينادونه فيجفل وتنتبه الفاتنة لوجوده فتغوص في الماء كأنها سر من أسرار العين يجب أن يظل غامضًا، ومع الاختفاء المثير نعود للغريب الذي يغادر ساحبًا حماره خلفه إلى عمق الصحراء.

  النقص هو أكمل عناصر السرد في الفيلم وأكثرها روعة وإلهامًا، مثلما يترك الفنان التشكيلي في لوحته خطًا دون إكماله مفسحًا مجالًا لعمل خيال المتلقي الذي يكمل الخط الناقص بالطريقة التي تناسبه؛ كذلك ترك الغزولي فجوات سردية كمساحة رحبة للتفسير والتأويل والتساؤل والمشاركة من قبل المشاهد الذي لم يعد محكومًا برؤية صارمة وتفسير سمعبصري وحيد يفرضه عليه صانع الفيلم كما اعتدنا خاصة في الأفلام ذات الطابع الإعلامي الموجِّه. نستطيع أن نعتبر هذا التكنيك (النقص سعيًا للكمال) أحد الأدوات التي يعود إليها الغزولي مرة بعد أخرى في أفلامه، وربما كانت أحد أسرار صنعته وسحر أفلامه التي تفتح الأفق ليجد المتلقي نفسَه فيها، أيًا ما كان موضوعها؛ ببساطة لأنه (المتلقي) شارك بخياله في إكمال فراغاتها. هذا شكل من أشكال الظاهرة التي تحدثتُ عنها من قبل وسميتها (انفتاح الفيلم القصير).

  على سبيل المثال شخصية الغريب؛ نفتتح الفيلم بوصوله دون التعمق في شرح سبب سعيه أو غرض رحلته أو نتيجة وجوده في المكان، والصبيان الذين يحلبون المعزة ويبدون كأنهم سرقوها وابتعدوا بها عن الأنظار لحلبها بغير وجه حق، هل فعلوا ذلك أم أنها ملك لهم أو لأحدهم، لا نعرف؛ فقط نرى الحدث الراهن ولا نتحقق من أي خلفيات له.

  أيضًا فتاة النبع؛ هل هي مجرد صبية حسناء تستحم في العين أم أنها الجنِّيَّة التي طالما حذرت الأمهات أبناءهن من الذهاب إلى أي ماء حتى لا تخطفهن! والولد الذي يتلصص عليها هل هو خائف منها أم متربص بها؟!

 

فيلم حديث الصمت علي الغزولي ١٩٩٩

 

التوثيقي والتخييلي (الدرامي) في الفيلم:

  إذا أردت أن تفهم حديث الصمت وهذا النوع المركب من الأفلام الذي سماه البعض بالفيلم الهجين؛ لعل من الجيد أن تفكك بنيته ليتضح أمامك ما هو واقعي وما هو خيالي، ما هو تسجيلي وما هو درامي:

  المكان الذي تدور حوله وفيه الأحداث ليس محددًا بشكل قاطع. نقرأ في التتر أن الفيلم صور في الواحات الداخلة غرب مصر، وقد يعرف المشاهد الخبير أن كثيرًا من المشاهد صورت في قرية القصر الإسلامية، تلك القرية التي كانت مركز اهتمام وجذب سياحي بعد أن اعتُبرت أواخر التسعينيات محمية للتراث العمراني الصحراوي. خاصة وأنها ربما القرية أو المدينة الوحيدة التي حُفظت أبنيتها وتركها سكانها على هيئتها التي بنيت عليها منذ قرون حيث يعود تاريخها المعماري إلى العصر الأيوبي الذي ازدهرت فيه كمركز لاستقبال الحجاج القادمين من المغرب في طريق ذهابهم إلى الحجاز، وأيضًا في طريق عودتهم. 

  تاريخ القرية يضرب في الماضي أكثر من ذلك بكثير حيث يقال إنها بنيت على أنقاض حصن روماني، ويُرجع البعض سبب تسميتها بالقصر لوجود قصر الحاكم الروماني الذي اقتطعت أحجاره واستخدمت كدعامات لبناء بيوت القرية المبنية بالطوب اللبن. لكن الشوارع والبيوت المحفوظة كأثر كانت جامدة لا تعبر عن الحياة التي أراد صانع الفيلم أن يبثها فيها؛ فخرج عن تصويرها وتوثيق حالتها بشكل موضوعي.. ضخ في حواريها وشوارعها وأزقتها وبيوتها الحركة ليُخرِج الصوت الكامن في صمتها الظاهر بالاستعانة بممثلين بعضهم محترفين وبعضهم من أهل القرى القريبة حسب ما رواه المخرج في أحد لقاءاته التليفزيونية، بل إنه خرج عن حدود القرية ليحصل على حياة كاملة ليست مفتعلة لكنها أقرب ما تكون إلى تلك الحياة التي كانت هنا يوما ما.

  الشخوص الأساسيون ثلاثة أدى أدوارهم الممثلون الذين وردت أسماؤهم في التتر؛ رجل الصحراء (محمد فوزي)، والطفل (إبراهيم السيد)، وفتاة النبع (رانيا عبدالمنعم). كل منهم تُرسم شخصيته مباشرة من خلال هيئته والحدث الذي يظهر من خلاله، وهما عنصران كافيان جدًا بالنسبة لفيلم قصير لن يتسع لمزيد من سرد التفاصيل عن تاريخ كل شخصية.

فيلم حديث الصمت علي الغزولي ١٩٩٩


  الرجل الغريب يظهر من قلب الصحراء القاحلة. يسير بخفين ضخمين يطلق عليهما (المَرْكُوب) لاعتياده السفر، ويرتدي زيًا ظننته في البداية جلبابًا صعيديًا نظرًا لتشابه التصميم مع اختلافات بسيطة مثل الطول الكلي وطول الأكمام وخامة القماش الصوفي، لكن الأستاذ محمد فوزي الريس (الممثل الذي قام بدور رجل الصحراء) لفت نظري إلى أن ذلك زي خاص بالواحات الداخلة والفرافرة يسمونه ال(جُبَّة) وهو رداء يختلف عن الجلباب الصعيدي في كونه من الصوف، وهو أيضًا ليس الجبة المعروفة التي كان يرتديها أجدادنا في الصعيد وما تزال جزءًا معروفًا من ملابس الأزهريين وتختلفان في الخامة وفي كون الجبة الشائعة مشقوقة من الأمام بالطول. أيضًا كان سكان الواحات يرتدون تحت الجُبة الصوفية ثوبًا يسمونه (التقشيطة) من الكتان أو قماش ناعم يخفف عنهم الحرارة ويمتص العرق للتواؤم مع المناخ الذي يعيشون فيه. ومن المفارقات الطريفة أن هذا الزي اندثر تمامًا ولم يعد موجودًا منه إلا نسخة واحدة محفوظة في متحف الواحات الداخلة استعارها صناع الفيلم للتصوير وهي الملابس التي يرتديها رجل الصحراء في الفيلم أي أن هذه الملابس في حد ذاتها وثيقة للتاريخ وعلى رأسه قبعة الخوص الشائعة في الوادي الجديد وتحتها طاقية.

  هذا الوصف الفيزيائي للشخصية قد لا يكون كافيًا؛ فقد يكون علينا استرجاع صور ذهنية قديمة راسخة في ذهن المشاهد سواء المشاهد المتعلم أو محدود التعليم والتجربة؛ الرجل وحماره يستدعيان علاقة قديمة وحكايات رويت وسمعت منذ القدم مثل حكاية الفلاح الفصيح وحماره الذي تسبب في أزمته مع الحاكم، ثم أيقونات دخول السيد المسيح إلى القدس على حماره بعد عودته من هجرته الطويلة إلى مصر أو الأيقونات العديدة التي يظهر فيها يوسف النجار مصطحبًا العائلة المقدسة في هجرتهم إلى مصر خاصة وقبعة الخوص بدائرتها حول رأس الغريب تذكرنا بهالة النور الذهبية حول رؤوس القديسين في الأيقونات المسيحية القديمة كما أن الجرة التي تحمل الماء يمكن تأويلها على أنها رمز للسيدة العذراء التي حملت السيد المسيح، كما يمكننا استدعاء قصص جحا الذي ارتبط حماره به وبالحِكَم والنوادر التي وردت في حكاياتهما معًا، وتوفيق الحكيم الذي تحدث عن حماره في رواية (حمار الحكيم).

  الحمار، أيضًا؛ دليل على البيئة الزراعية ووجوده قد يكون منافيًا لطبيعة البيئة الصحراوية التي يفتتح الفيلم بها. الحمار يوضح لنا أن هذا الرجل ينتمي إلى الواحة أو واحة أخرى، وهو بذلك يمثل صلة بين البيئة التي اعتدنا رؤيتها ممثلة لمصر وهي بيئة وادي النيل ببيئة مصرية أخرى لكن أبناء المدن (المشاهدون المرتقبون للفيلم) يغفلون عن وجودها، كما أن الحمار دليل على المستوى الاجتماعي للشخصية، فالراسخ في ثقافتنا وتاريخنا أن العوام في مصر كانوا لزمن طويل ممنوعين من ركوب دواب غير الحمير، وبالكاد كان الميسورون منهم يستطيعون ركوب البغال، أما الخيل فكان ركوبها حكرًا على المماليك ومن بعدهم العثمانلية وأتباعهم.

فيلم حديث الصمت علي الغزولي ١٩٩٩


  الصبي الصغير أكثر الشخصيات توظيفًا في ربط الأحداث، نراه في أول الفيلم ضمن الأطفال الذين يحلبون المعزة ثم نراه بعد أن هرب من رجل الصحراء في مشهد آخر عند عين الماء حيث يكتشف وجود الشخصية الثالثة (فتاة النبع)، ونراه يهرول بعد أن دعاه أصدقاؤه ليلحق بهم في (زفة الحج) وهو طقس شعبي قديم طالما أقيم في القرى المصرية توديعًا للمسافر إلى الحجاز لأداء مناسك الحج والعمرة أو ترحيبًا به عند عودته حيث يقيم أهله الولائم ويشيعون الفرح في القرية، الطفل بطبعه فضولي متسائل لاه، وهي صفات مثالية ليكون موجودا في كل مكان بالقرية واصلا حلقات السرد في الفيلم، مرة تقوده غريزة الجوع مع أصدقائه لاقتناص لبن المعزة وهو ما يلقيه في مجابهة رجل الصحراء الغريب المريب (هذه الحبكة الفرعية تذكرنا بفيلم صيد العصاري ومواجهة الطفل، البطل، للصيادين المتخفين الخارجين من الماء)، ومرة يقوده البحث عن لذة اللعب وصحبة الأصدقاء إلى الزفة، وأخيرًا يعيده الفضول إلى النبع للتلصص على الفتاة التي تسبح فيه، وفي كل موقف من ذلك نجده يتعثر في هرولته خوفًا أو شغفًا.. هروبًا أو سعيًا، وربما كان الهدف من تعثره وسقوطه إثارة التعاطف معه في نفس المشاهد لتحفيزه كي يتابع مغامرة الصبي حتى النهاية.

فيلم حديث الصمت علي الغزولي ١٩٩٩


  فتاة النبع، هي أكثر الشخصيات غموضًا وإثارة. لا يذكر السرد أي شيء أو يعرض أي مظهر يوحي بأنها ليست سوى فتاة تستحم في عين الماء، وهذه كانت عادة نساء القرية في الماضي، فلم تكن هناك حمامات في البيوت ولا حتى حمامات عامة في القرية، كانت النساء تخرجن إلى هذه العين الكبريتية بمياهها الدافئة مبكرات جدا، ربما حتى قبل ظهور نور النهار. متدثرات بالظلام أو مستترات بغياب الرجال الذين لم يخرجوا إلى الطرقات بعد، وقد يكون من النادر جدًا أن يَلمَح أحدُ الرجال إحدى النساء في حالها تلك، ولم يكن عاقل يجرؤ على أن يتعقب امرأة أو أن يتلصص عليها، لكن بالنسبة لطفل صغير قد يكون الأمر مختلفًا، وقد يدفعه النزق أو الجهل إلى التسلل إلى النبع ومراقبة المشهد الذي يثير فضوله.

  مع ذلك لا يمكن أن نغفل صورًا ذهنية، وتصورات ثقافية يستدعيها المشاهد تلقائيًا عند مشاهدته للصبي يفاجئه خروج الفتاة الحسناء من تحت الماء، ويسأل المشاهد نفسه إن كانت بقيت في الماء كل زمن الفيلم منذ هروب الفتى مذعورًا منها ثم عودته آخر الفيلم متلصصًا يبحث عنها فيجدها ما تزال سابحة، ثم عندما تكتشف وجود الفتى لا تخرج أو تهرب، لكنها تغوص مرة أخرى فتعود بغموض تدعمه الموسيقى التصويرية إلى الأعماق.

  من الواضح أن الفتى عندما يهرب منها يكون في ذهنه نفس القصص القديمة التي كانت الأمهات في الماضي القريب تحكينها لأطفالهن عن جنية الماء الساحرة التي تظهر بارعة الحسن فائقة الجمال (خاصة للرجال أو الصبيان) فتغريهن بحسنها الأخاذ ورقتها المتناهية وتسلبهم عقولهم؛ إما يتبعونها إلى الماء فيغرقون أو تخطفهم، تجذبهم إلى القاع حيث تعود إلى صورتها الحقيقية جنية بشعة تقتلهم وتقدمهم طعامًا لأطفالها من العفاريت الذين ينتظرون صيدها، وأخيرًا قد ينجو الرجل من الموت لكنه يصاب بالجنون فلا يعود قادرًا على كشف حقيقتها ويهيم على وجهه كواحد من المجاذيب.

  أسطورة منتشرة في الأقاليم المصرية المختلفة، بل وعلى مستوى العالم تتناول هذه المرأة الفاتكة التي يكون مسكنها غالبًا في الأماكن المبتلة سواء كانت بِرَكًا تِرَعًا أو ينابيع ماء أو مياه بحر أو حمامات عامة. تختلف مسمياتها فيطلقون عليها مثلا في مصر (النداهة) ويسمونها في المغرب (قنديشة) أو (عايشة قنديشة) وفي الكويت والخليج (أم الدويس) وفي اليابان (ذات الفم المشقوق). أسطورة ضاربة في القدم قد يكون مردها إلى حكايات عرائس البحر التي كان البحارة يتحدثون عنها ولا يكون بإمكان أحد المستمعين التأكد من صحتها، كما تُرَدُّ أيضًا للسيرينات البحريات عند اليونان، وغالبًا ترتبط بشخصية ليليث التي وردت في بعض النصوص اليهودية باعتبارها زوجة آدم الأولى التي هربت مع الشيطان، وهذه القصة لها جذور آشورية أيضًا ترتبط بشخصية اعتبرتها الميثولوجيا القديمة إلهة الحب والحرب وهي عشتار.

  الشخصيات الثلاث تمثل الجانب الدرامي، والدراما هنا استخدمها الغزولي كمساحة من التشويق تجذب المشاهد لمتابعة الموضوع، لكنها تختفي جزئيًا في متن الفيلم فلا نرى شخصياتنا الثلاث بحبكتها الدرامية والعلاقات ما بينها إلا في بداية الفيلم ونهايته ثم يختفي رجل الصحراء وفتاة النبع ويظهر فقط الصبي وسط الفيلم وهو ينضم مع أصدقائه إلى زفة الحاج.

  ربما يكون من المهم هنا الإشارة إلى أن النسخ المتاحة من الفيلم على الإنترنت مختلفة عن بعضها، فبعضها مثلا حذفت منه مشاهد فتاة النبع، وربما كانت هناك تدخلات حدثت إبان عرض الفيلم في التليفزيون، وقد يكون للفيلم نسخة أولى فيها مساحة أكبر لحبكة درامية أكثر اكتمالا، لكني اعتمدت هنا على النسخة الأطول من الفيلم والتي حصلت عليها من الأستاذ علي الغزولي نفسه، وأعتقد أنها النسخة الباقية الأكثر اكتمالا بصرف النظر عن أنها أيضًا قد تكون تعرضت لبعض التدخلات.

  الغزولي يستخدم أدوات الفيلم التخييلي المعتادة فيبدو الفيلم دراميًا لكنه من خلال هذه الدراما يبث الحياة في موضوع الفيلم الأصلي ذي الطابع الوثائقي، فبعد أن صور شوارع قرية القصر خالية من الناس مهجورة، لم يكتف بما صوره والذي كان بإمكانه وضع تعليق صوتي عليه مع موسيقى محفزة للمشاعر، وهو ما قد يفعله مخرج تسجيلي آخر، أما مخرجنا هنا فقد اختار أن يستعين بممثلين محترفين وغير محترفين ويدير التصوير بنفس الطريقة التي سيلجأ إليها أي مخرج درامي وذلك يتضح من تقطيع المشهد إلى سلسلة متوالية من اللقطات لا يتأتى أن تأتي بهذه الانسيابية إلا لو كان يحرك الأشخاص ويعيد تصوير اللقطات أكثر من مرة أو على الأقل يدفعهم لعمل بروفات قبل التصوير وهو ما ينكشف بوضوح في بعض اللقطات على سبيل المثال عند وصول رجل الصحراء وتوقفه للاستراحة في ظل نخلة، نراه يضع سلة صغيرة من الخوص على الرمال وبينما يفعل ذلك نرى في الرمال أثر السلة قبل أن يضعها على الأرض مما يشير بوضوح إلى أن الحركة أعيد تصويرها على الأقل مرة واحدة، وهو ما يكشف نوعًا ما عن الأسلوب الذي اتبعه الغزولي في التصوير والذي لا يعتمد مجرد تسجيل الحدث الذي أمامه بل إعادة تمثيله حتى يصل إلى اللقطة التي ترضيه بالترتيب الذي يحقق بناء مشهد محكم.


البناء الصوتي للفيلم:

  رغم الأهمية المطلقة التي يعطيها الغزولي في فيلمه للصورة حتى إنك لا تجد لقطة واحدة إلا وتكوينها محكم من حيث البناء التشكيلي ومن حيث المعنى أيضًا؛ تكوينًا وإضاءة وزاوية تصوير وعدسة باتساع زاوية محسوب بدقة ومناطق الظل والنور وزاوية الشمس مع الأخذ في الاعتبار أنه استخدم إضاءة صناعية في أغلب اللقطات خاصة التي احتوت عناصر بشرية خارج وداخل البيوت ولم يعتمد فقط على الضوء الطبيعي الذي ربما لم يكن ليفي بالغرض لا من ناحية جودة الصورة ولا من حيث جمالياتها ومن الواضح طبعًا تعاون مدير التصوير مجدي رمزي في صوغ هذه المنظومة. لكننا -أيضًا- لا نستطيع عبور هذا التمكن في تضفير تراك الصوت بحيث أصبحت كل تفصيلة فيه تضيف معنى وجمالًا وتوسع امتداد الفيلم فتزيده انفتاحًا وقدرة على تحفيز الخيال.

  هناك ثلاثة عناصر أو مسارات صوتية أساسية يعتمد عليها بناء شريط الصوت الكلي بالإضافة إلى الحوار المقتضب المحدود الذي لا يتعدى كلمة هنا أو حوارًا سريعًا بين اثنين لا يزيد عن بضع كلمات.

  المسارات الثلاثة هي:

١- مسار الأغاني الشعبية التراثية وشمل الحُداء البدوي، والموال، وأغاني الحج، والحضرة الصوفية، وتهويدة (أغنية هدهدة الرضيع).

٢- المؤثرات الصوتية الطبيعية والمصطنعة مثل الخطوات وأصوات الرياح وصوت إدارة رحى الطحن والعجن لإعداد الخبز وصوت الزغاريد وما إليها. وهي أداة صوتية عادية في أي فيلم لكن الغزولي هنا والمسؤولون عن المونتاج والمكساج المونتير أحمد متولي ومهندس الصوت مجدي كامل أجادوا توظيفها لأبعد الحدود كمفردات لغوية سينمائية لخلق الأجواء وتطوير السرد.

٣- الموسيقى التصويرية المؤلفة خصيصًا للفيلم. والتي وضعها المؤلف الموسيقي وعازف العود المصري أرميني الأصل جورج كازازيان الذي أظهر بموسيقاه تمكنًا عميقًا في فهم الروح المصرية وقدرة عالية على جعل تراك الموسيقى خطًا سرديًا موازيًا يعبر عن الحدث، يقدم له ويتفاعل مع تصاعده؛ على سبيل المثال نحس من خلال الموسيقى بانتقال الرجل القادم من البيئة الصحراوية إلى واحة وارفة الظلال، كما نشعر بالغموض الذي يكتنف ظهور فتاة النبع أو بتسلل الفتى الصغير إلى النبع أو هروبه من الجِنِّيَّة.


  بالنسبة للمسار الأول (الأغاني الشعبية التراثية) نجدها موزعة  تبعًا لخطة دقيقة بعضها لا نستطيع تمييز كلماته لكنه يضفي روحًا من التغريب والوحشة، وبعضها يمكننا نسبيًا فهمه حيث تقدم كلماتها سردية موازية أو متداخلة أحيانًا مع السردية البصرية في الشق الدرامي من الفيلم، مثلما نجد في المقدمة التي نسمع فيها حُداء بدويًا ينقل رسالة ترحيبية مع وصول رجل الصحراء:

"يا مرحبا مرحبا.. عدد ما مشيتوه

يا مرحبا مرحبا.. عدد ما قطعتوه بالمراكب وجيتوه

عدد ما قطعتوه قبل  بالمحطة محطة"


  الحُداء فن قديم ارتبط بالارتحال والاغتراب منذ القدم. رتيب في إيقاعه الشعري الذي يجيء على بحر الرَّجَز وهو بحر بسيط تكراري، يتواءم مع سير الإبل في الصحراء، استخدمه الحداة قديمًا في منادة جمالهم التي ترتبط بصوت الحادي وتجيبه بما حباها الله به من ذكاء، هو فن يستأنس به المسافرون الذين تركوا أهلهم خلفهم فأصبح فنًا يجمع بين النقيضين؛ الأنس والوحشة.

  تتقدم الدراما  وتظهر فاتنة النبع الغامضة التي تثير فضول الفتى المراهق الصغير فنبدأ سماع حُداء أقرب إلى المَوَّال يقدم مروية موازية عن الغواية والطريق إلى النجاة الذي هو في الزوجة الصالحة التي يذكرها النص باعتبارها (بنت الأصل)،  فيقول:

"وعلى العالية..

مال الحمام يغويه.. وعلى العالية

يغويه على العذاب.. وخد الغالية 

مال الحمام يغويه.. ع الدرب الجديد

مال الحمام يغويه

.. خد بت الأصل"


"وعلى دربنا مال الحمام يغويه وعلى دربنا

يغويه على العذاب ياخد بتنا

يغويه على العزا يا خد بتنا"


  هكذا نجد أن الحُداء الذي يبدو بالنسبة لأذن المشاهد المعاصر الذي لم يعتد سماعه غريبًا غامضًا لا يمكن تفسير جميع كلماته، يُزيد الإحساس بالجانب الدرامي المرتبط بمَشَاهد حلول المسافر الغريب أو فتاة النبع (الجنية) الغامضة، وتفاعل الطفل ابن الواحة مع كليهما والذي يبدو مغامرة يومية لحَدَث يختبر الحياة بجهل وشغف ودهشة.

  بعد ذلك ينقلنا صانع الفيلم إلى المَتن الذي يميل أكثر للتوثيق، وهنا نجد في رفقتنا أغاني الحج ذات الكلمات الواضحة مثلما نسمع في غناء البنات الصغيرات، تنشد إحداهن منفردة وتردد خلفها الأخريات كل مقطع على حدة بالتوالي:

"صلوا على النبي

وزيدوا صلاته

كان يلاغي القمر محمد.. ويفهم لغاته


يا وابور النبي

يا أحمر يا عدسي

من يوم ما هويت النبي .. صحاني من نعسي


يا وابور النبي

يا أحمر يا دومي

من يوم ما هويت النبي.. صحاني من نومي


نخلتين في الحرم

يا محلا هواهم

هنيا للحجاج اللي جايين بلاهم"


  كما نجد ذلك أيضًا في النشيد ذي الكلمات الواضحة المصاحب لزفة الحاج حيث يردد الحشد المقطع الأول، ويتبعهم المنشد بزيادة معنى جديد:

"بشاير بشاير من عند الحبيب

يا بلبل يا طاير سلم ع الحبيب


أحباب المدينة

 النور بينادينا

مين سيدنا وهادينا! مين؟!

غير طه نبينا


بشاير بشاير من عند الحبيب

يا بلبل يا طاير سلم ع الحبيب


مَن آمن إيمانه

مَن أدن آدانه (أذن آذانه)

مَن شرَّف زَمانه مين؟! غير طه نبينا


بشاير بشاير من عند الحبيب

يا بلبل يا طاير سلم ع الحبيب


مَن سجد سجوده

مَن شهد شهوده

مَن وَفَّى بعهوده.. مين؟! غير طه نبينا


بشاير بشاير من عند الحبيب

يا بلبل يا طاير سلم ع الحبيب


من يوم القيامة

يا رب السلامة

مين يِجٍيرنا منها مين.. غير طه نبينا


بشاير بشاير من عند الحبيب

يا بلبل يا طاير سلم ع الحبيب


أحباب المدينة

الكعبة بتنادينا

مين سيدنا وهادينا مين.. غير طه نبينا"


  وأخيرا بينما تهدهد أم من نساء القرية رضيعها تغني له:

"واش جابك هنا يا غالي واش جابك هنا

جابتني الحلوة الصبية والبت ام عيون عسلية

ودوا لابوها شهود شهود وأنا معاهم بَيِّنا"


  مما سبق يتضح أن الغزولي صنع تراك صوت في حد ذاته يعتبر وثيقة لأشكال عديدة من الغناء الشعبي المصري التي اندثر معظمها حاليًا، دون أن يكتفي بذلك؛ فالحُدَاء والمواويل القريبة إلى الحداء بكلماتها الغامضة وما يثيره إيقاعها من إحساس بالوحشة والغرابة كانت خلفية للجانب الدرامي في الفيلم، أما الأغاني والأناشيد ذات الكلمات الواضحة والأغراض المباشرة فقد رافقت الجانب التوثيقي في الفيلم.


أخيرًا:

  نستطيع استنتاج أن علي الغزولي انطلق (كما يفعل غالبًا في أفلامه) من المكان، لكنه لم يكتف بتوثيق المكان كما هو، إنما بث فيه الحياة من خلال الاستعانة بمؤديين من أهل القرى المجاورة أعادوا الحياة إلى البيوت والدروب المهجورة، واستعان بممثلين محترفين لأداء بعض الأدوار التي من ناحية تعيد تمثيل شكل الحياة في القرية قبل عشرات السنين، ومن جهة أخرى تقدم إطارًا دراميًا بسيطًا شيقًا يجذب المشاهد للمتابعة، وهذا ما جعل عناصر السينما الخالصة من صورة إلى حركة وإيقاع وصوت، العناصر التي تميز اللغة السينمائية هي الأساس في صنعته، بينما جاءت الدراما أيضًا، أو لنقل الإطار الدرامي ليدعم الموضوع ويحقق الجاذبية والجماهيرية التي حدت بالبعض يومًا لوصف أفلام الغزولي بأنها (أفلام شباك وثائقية) بما يحمله هذا المصطلح من إشارة إلى القدرة على إرضاء وإمتاع المشاهد مع الحفاظ على الموضوع الأصلي ذي الطابع التسجيلي.


أحمد صلاح الدين طه

١١ مارس ٢٠٢٥

dedalum.info@gmail.com




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

Translate ترجم إلى أي لغة

بحث Search

عام جديد سعيد 2025

Dedalum New Year

ديدالوم

عام جديد سعيد مليء بالإبداع والفرح!

أرشيف المدونة الإلكترونية


شرفتنا بزيارتك أنت اليومَ الزائر رقم

125688