ما بين السينما والفلسفة
إن البحث في الصورة يعد من الموضوعات المهمة للغاية خاصة و الصورة قد فرضت سيطرتها و سطوتها على العقل الإنساني منذ القدم ,ففي الفن تعتبر الصورة جوهر الفن و سمته الأساسية و ذلك لان الفن في ابسط معانيه هو إبداع صور أو أشكال معبرة وقابلة للإدراك الحسي , وفي مجال الدراسات الجمالية نلاحظ أن للصورة أهميتها الكبيرة نظرا لبلاغتها و تنوع دلالتها و من هذا المنطلق اهتم بدراستها العديد من الفلاسفة في كل العصور. فمنذ القدم أعلن أفلاطون أن هناك نوعين من الصورة. صورة مزيفة للحقائق الموجودة في عالم المثل تبعد عن الحقيقة بحيث يوهم صاحبها الناس بأنه يصور لهم الحقيقة وهو في الواقع مزيف , والأخرى صورة حقيقية تصدر عن فنان جيد يلم بالحقائق الموجودة في عالم المثل ويعبر عنها في صورة جمالية. و لم يختلف الحال في الفكر الجمالي المعاصر ,حيث ظهر الاهتمام بالصورة بوضوح عند العديد من الفلاسفة الذين لم يترددوا لحظة في تتويج الصورة أو الشكل على باقي العناصر العمل الفني. ومن هنا يمكن القول بان الاهتمام بالصورة في تطور مستمر ولكنه قد زاد بشكل ملحوظ في الآونة الأخيرة لدرجة دفعتنا إلى القول بان العصر الذي نعيش فيه هو من الناحية الفنية عصر الصورة , وخاصة المتحركة منها التي استحوذت على العقل والوجدان. ويرجع اهتمامنا وتركيزنا على الصورة السينمائية دون غيرها إلى انه إذا كانت الصورة قد فرضت سلطانها وسطوتها على العقل الإنساني منذ القدم. فان هذه السيطرة قد زادت بشكل قوي وخاصة مع اختراع السينما التي منحتها الحركة والحيوية.
السينما هي عملية إبداع فني يعتمد في الأساس على تقنيات تكنولوجية تؤدى في النهاية إلى إبهار بصري وصور حية متحركة. وحيث أن لها القدرة على التعبير والتأثير. فهي تعتبر علامة بصرية منتجة للدلالة. تلك الدلالة أو العلامة التي تفسر عند المشاهد بتفسيرات مختلفة منها ما يتفق مع النص ومنها ما يفهم من السياق ومن شرح وتفسير وتحليل العلامة.
والفلسفة خطابا سمته التحليل لمواقف ورؤى محددة من أجل الإفهام وشرح وتبرير أطروحات معينة تمثل اتجاها فكريا معينا.
وحيث أن السينما تقوم على بناء الصور المتحركة التي تعبر بها عن مئات الجمل والعبارات والأفكار عن طريق لغتها وأدواتها الخاصة. هذه الجمل والعبارات قد تكون ترجمة لهذا الفكر الفلسفي فبقدر نجاح السينما في تصوير العبارات والجمل بقدر ما يتضح الفكر الفلسفي للكاتب أو المؤلف.
وحيث أنه يتم فهم الفيلم عبر المشاهدة وليس عبر المكتوب حيث تنتقل الفكرة التي قد تحمل فكرا فلسفيا معينا إلى صورة تحمل وتترجم نفس المعنى فيتحول الناتج الفلسفي إلى مجموعة من المشاهد المرئية فنجد أحيانا حضورا فلسفيا عميقا داخل إبداع سينمائي
فإن السينما تهم الفيلسوف على أكثر من صعيد بفضل خلقها وابتكارها صورا جديدة للحياة التي قد تكون استجابة لمقصد فلسفي.
سيميائية الصورة وتأثيرها
تعتبر السينما أداة مهمة من أدوات التعبير الفني الإبداعي شديدة التأثير على الجمهور المشاهد ,فهي تعبر عن الواقع بأسلوب إبداعي وخاصة في الأفلام المتحركة. وعليه فالسينما هي تعامل منظم مع الطبيعة يتم عن طريق تجمع منسق لخصائص سينمائية معينة تتميز بمجموعة من العلامات أو الإشارات و هذا ما يجعل منها نظاما سيميائيا .
عندما يشاهد الإنسان في أي مكان في العالم فيلما ما فإنه يفهم منه ما يتلاءم مع مستواه الفكري والثقافي دون شرط أن يكون من العالمين بلغة كتابته أو تقديمه وبالتالي يمكن القول بان الصورة تزيل حواجز وعوائق اللغة بين بني البشر فتعطي إحساسا للمتلقي بأنه يشاهد بل ويشارك في الحدث بقدر ما يتفاعل معه.
توضح الصور للمشاهدين ردود أفعال ومشاعر الناس المشتركين في الأحداث ويمكن من خلال الصور التعبير عن عاطفة الفرح ,الحزن ,الخوف ,الغضب وذلك أكثر من الكلمات.
تثير الصور عاطفة المتلقي وذلك بإثارة الذكريات الماضية وتوقعات المستقبل فصور طفل يلعب يمكن أن تعيده إلى ذكريات أليمة أو سعيدة وفق المخزون الذهني لديه.
كثرت الأسئلة حول علاقة الفلسفة بالسينما و العكس ,حيث نجد العديد من المخرجين الكبار يتجادلون مع الفلسفة و يصنعون رؤى خاصة بهم تدل على مخرجين مفكرين و فلاسفة عظام لديهم قدرة على التعبير عن أفكارهم الجادة بالصورة السينمائية
فالسينما "لغة صور" لها مفرداتها و بيانها و قواعدها ,والفلسفة نمط من المعرفة يعلو على كل الأغراض مادمت تقوم على خلق المفاهيم.
و التفكير بالصورة عبر السينما مختلف عن التفكير الفلسفي وحتى عن تفكير إنسان عادي و المقاربة بين الفلسفة و السينما لم تنطوي على أي خلط بينهما ,بل كان ظاهرها يميل إلى إقرار التشابه بينهما و لكن باطنها كان يضمر حرص شديد منه على تمييز كل منها عن الأخر و عدم الخلط بينهما.
*يتميز عالم السينما بقربه الشديد من المظهر المرئي للحياة . . أما الوهم بالواقع فهو، كما رأينا، خاصيته الثابتة. بيد أن هذا العالم يمتلك سمة أخرى تعتبر غريبة الى حد ما : ان السينما، في جميع الحالات لا تقوم باعادة عرض الواقع في تكامله بل تتناول فقط جزءا بحجم الشاشة. في السينما يقسم العالم الموضوعي الى حقلين : حقل الاشياء المرئية، وحقل الاشياء اللامرئية وما ان تتوجه عين الكاميرا نحو شيء ما حتى يولد التساؤل ليس فقط حول ماتراه هذه العين ولكن ايضا حول ما يبقى بعيدا عنها وغير موجود بالنسبة لها. وبالتالي فان بنية العالم القائم خارج حدود الشاشة تطرح نفسها كقضية جوهرية بالنسبة للسينما. ان عالم الشاشة هو على الدوام جزء من عالم آخر، وهذا ما يحدد الخصائص الاساسية للسينما كفن قائم بذاته وليس من قبيل الصدفة ان يقترح فنان مثل كوليشوف Kouléchov في احد اعماله المخصصة للممارسة السينمائية، وسيلة لترويض القدرة على الرؤية وذلك بأن يقوم المرء بمراقبة الموضوع المراد تصويره من خلال نافذة مستطيلة يقتطعها في قطعة من الورق الأسود بأبعاد تتناسب وأبعاد الصورة السينمائية . عندها سيتضح الفرق الأساسي بين عالم الحياة وعالم الشاشة المرئي . فالأول غير مجزأ ( مستمر ) .أما عالم السينما فهو عالمنا المرئي ذاته لكن مضافا إليه عنصر التجزئة ( اللا استمرارية ).* من كتاب مدخل إلى سيميائية الفيلم ص٣٧ تأليف يورى لوتمان ترجمة نبيل الدبس
*(يمكن للصور ذاتها أن تحوي عددا من الدلالات الاضافية وأحيانا اللامتوقعة، اذ بمقدور الاضاءة والمونتاج وتبديل اللقطات والتلاعب بالسرعة الخ أن يمنح الأشياء المعروضة على الشاشة دلالات اضافية رمزية symboliques ، مجازية metaphoriques أو كنائية mdtonymiques الخ .)*من كتاب مدخل إلى سيميائية الفيلم ص٤٧ تأليف يورى لوتمان ترجمة نبيل الدبس
أن التعامل مع الإضاءة كلغة یضفي عمق إلى وظيفة الإضاءة الأساسية المتمثلة في تسجيل الضوء المنعكس من الموضوعات الجاري تصویرھا. فیخرج بعلاقة الدال والمدلول الإیقونیة في وظيفة الإضاءة الأساسیة، إلى رمزیة الإضاءة، وقدرتھا على ترجمة الاحاسیس والمشاعر والصراع وبواطن النفس إلى أشكال مختلفة من علامات أسلوب مدیر التصویر ومنھا مستوى الاضاءة المرتفعة او المنخفضة ومناطق الظلال، وشكلھا، وحدتھا، وأیضا زاویة الإضاءة، في الافلام .
*للإضاءة بعلاقتها مع الإعتام دور كبير في توجيه الصورة السينمائية إلى دلالة محددة . ومما اشتهرت به استعمالات الإضاءة في تاريخ السينما هو إثارة معانى الخوف وعواطف الرعب ودلالة الإقصاء الفردي الهادف إلى إشعار الأخر بالخطر والقلق.
فالإضاءة وهى عنصر مكون للصورة السينمائية تساهم في إبداع دلالة الرعب فعندما تأتى الإضاءة الرئيسية للوجه من أسفل يبدو أكثر شراسة وقد تؤدي الإضاءة دلالات أخرى وفق رؤية المخرج والمصور السينمائي. * من كتاب سيميائية الصورة مغامرة سينمائية في أشهر الإرساليات البصرية في العالم تأليف قدور عبدالله ثاني
إن الضوء في التصوير هو عنصر مشارك بشكل مباشر في عملية إنشاء الرسالة التي يرسلها فهو يقوم بإرسال صورة الشئ إلى الفيلم كما يتفاعل مع الفيلم أو الوسيط الحساس في عملية تسجيل الصورة ويحمل أيضا الرسالة إلى وسائل إعادة الإرسال ثم يدخل في عملية إرسال المنتج النهائي إلى المستقبل وبهذا المفهوم فإن الضوء يشارك في كل أوجه الإتصال . وبتطبيق التحليل السيميوطيقي على طبيعة العلامة ومفاهيم الدلالة الأصلية والإضافية على الإضاءة يتشكل تنظيم أسلوبى ما يؤكد كلا من الدلالة الأصلية والإضافية في كل مراحل إنتاج الضوء ليس فقط الإنتاج المؤدى لصورة قابلة للتميز والإدراك ولكن صورة تفي بالمتطلبات الدلالية الأصلية التي من الممكن أن تكون موجودة في نص الفيلم
ومن أشھر المشاهد التي یظھر فیھا ھذا المفھوم مشهد في فيلم القاهرة ٣٠ المأخوذ عن رواية القاهرة الجديدة لنجيب محفوظ . ارتبط محجوب عبد الدايم طوال أحداث الرواية/الفيلم بكلمة "طظ"، "فتكفیه "طظ" تاج من طین فوق راسه الفارغ". عبر المخرج صلاح أبو سیف في الفيلم عن ھذا التاج بقرون الثور فوق رأس محجوب. بما للقرون من مدلول واضح عن الزوج الدیوث في التراث الشعبي المصري. لیس ذلك فقط بل قامت إضاءة وحید فرید الساقطة على القرنیین بخلق ظلال، كماھو واضح في الشكل ،تضیف وتُؤكد نفس المفھوم مع إفراغ اللقطة من أي تفاصيل أخرى، لتوجیه انتباه الُمشاھد نحو ھذه العلامة الإشاریة من حیث وجود القرون التي تشیر إلى قرون الثور، والرمزیة من حیث المعنى الرمزي لھذه القرون.
وحيد الملاح
مدير تصوير وناقد سينمائي