في الماضي ، كنتَ تغضب جداً - كمصورٍ - عندما يأتيك عسكري و يعكر صفو المشاهد الجميلة التي تلتقطها بكاميرتك ؛ فيقول لك بلهجةٍ مهتزة لكنها مُلِحَّة :
- كلم الضابط.
كنت تذهب منصاعاً إلى الشاب الصغير المزيا برداء رسمي و يجلس في قلب الظل تحت شجرة أو عند مدخل عمارة ، يهش ذباب الحر عن وجهه الحليق و يتطلع إليك بعينين شبه مغلقتين كمن صفعه ضوء الشمس و هو لتوه استيقظ من النوم.
يسألك و كأنه لا ينتظر إجابة :
- التصوير دة بخصوص إيه يا حضرت ؟
لا تجيبه ، ليس كبراً منك ؛ لكن لأن السؤال لا معنى له . لماذا يكون التصوير بخصوص شيءٍ ما . التصوير في حد ذاته هدف ٌ خاصة بالنسبة لشخصٍ قضى خمس سنواتٍ من عمره يدرس في كلية متخصصة ليصبح مصوراً ، ليصبح ذلك الشخص الكفؤ لحمل كاميرا و النزول إلى الشارع و تسجيل حيوات الناس و لهفة هرولتهم في شوارع متبرجة بزي التفرُّد .
- انت مش عارف إن التصوير ممنوع إلا بتصريح ؟
- تصريح من مَن ؟!
طبعاً تدعي العبط ؛ فأنت مدركٌ تماماً أنه ليس تصريحاً واحداً بل تصاريح عديدة : الداخلية و الأوقاف و السياحة و الإعلام و غيرها ، كأنك بحاجة للمرور على كل موظفي الحكومة قبل أن تحمل كاميرا و تقف في ميدان عام لتصور بعض الصبية يلهون في ماء نافورة .
أذكر منتجة تليفزيونية أجنبية قالت لي مرة
- صورت في معظم دول العالم ، و في كل بلدٍ عملت فيه كنا نبلغ السلطات فقط ليوظفوا من يحمينا من المتطفلين، لكن هنا تبدو لو خاطبت المسئولين كأنك تطلب منهم أن يوظفوا من يتطفل عليك .
هذه التفاصيل التي بدت حينها مزعجة كانت في الماضي . الآن ، الوضع أسوأ
الآن
تقرأ خبراً في جريدة مفاده أن شخصاً سيحاكم بتهمة " إرتكاب جريمة التصوير" . ليس ذلك فقط ، بل تفاجأ بأصحاب الأقلام و المستحوذين على شاشات برامج التوك شو يمعنون في التحريض على كل من حمل كاميرا و صور واقعة لولاه ما رآها أحدٌ و لكانت دفنت حقوق كثيرة و اضطر الآلاف ممن اغتصبت آدميتهم لكتم آلامهم و تكفين أرواحهم في ملفات شرطة يمكن أن تغلق دون أن يعاقب المجرم طالما هناك من يقتنع بأن كل شيءٍ تمام مادام لا أحد يذكر الأحداث و يقلق راحة المسئولين
التصوير ليس - فقط - فناً
التصوير شهادة شهيدٍ على الواقع و الوقائع
لا أشك أن المصور هو نفسه الكاتب أو الشهيد الذي أمرنا الله سبحانه و تعالى أن نحميه "وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ" أليس المصور قائماً بأعمال التوثيق ؛ من يلومه إذاً لكونه لم يقدم على حماية ضحية بينما قام بعمله على أكمل وجه
و لماذا نكرم ، إذاً ، ضابط شرطة تقدم لأداء وظيفته ليس إلا ، أليس مكلفاً بحماية الناس ( كل الناس ) . طبعاً لا ألوم من كرمه لأنه قام بعمله كما ينبغي و خاطر بحياته في سبيل أداء الواجب ، و هو جهدٌ لا يستطيع منصفٌ إلا أن يحمده له . لكني في المقابل أستغرب أن تُشن حملة منظمة في وسائل الإعلام تحاول إيهام الناس أن من يحمل كاميرا و يقوم بالتصوير مجرمٌ يمكن إغراء السفهاء بمطاردته و الفتك به .. أتعجب من ذلك ليس لأنه جديد ، لكن لأنه نفس الأسلوب القديم : " اكفِ على الخبر ماجور " لا تدع أحداً يذكر ما حدث ، و بذا كأن لا شيء وقع على الإطلاق
فلسفة تستحق الدراسة في أكاديميات التدليس ، و ماكيافيليات التلبيس
فلسفة أوصلت مجتمعنا قبل سنواتٍ لما كان عليه : باطنه يغلي بينما السطح جنانٌ مورقاتٌ و شمس ساطعة . لكن ، إلى متى ؟
إلى أن يجد البركان ثغرة فينفجر .
رسالة إلى كل المسئولين : ليس بإخفاء الحقائقِ تزدهر الدول ، و ليس بقتل المصورين أو تلفيق التهم لهم تستقر الأوضاع .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق