لطالما نظرنا إلى الفيلم الكوميدي على أنه أقل فنية.. درجة أدنى على سلم الفن الرفيع. تهمة أحيانًا يحاول الفنانون نفيَها عن أنفسهم حتى لو لم يعلنوها صراحة لكنها مضمرة في نفوسهم وقت صناعة الأفلام، مما يجعلهم عمليًا لا يهتمون كثيرًا بالصنعة ويهملون الدقة ويتغاضون عن التفاصيل، لأنه فيلم (مهما كان) كوميدي؛ لن يلقى الثناء على أية حال من النقاد أو الصفوة وسيظل في قائمة الأفلام التجارية التي يؤمها الجمهور بالملايين ويتعالى عليها المثقفون فرادى ومجتمعين.
ربما تكون تلك النظرة موروثة من تقاليد فنية موغلة في القدم، من أيام المسرح الكلاسيكي اليوناني وقواعده التي نظرها وسجلها أرسطو وتم إحياؤها حديثًا واعتبارها مرجع الفن الدرامي الأول، ورغم ما مرت به معتركات الحياة الفنية من نزعات ومدارس وثورات خلال القرنين الماضيين؛ بقيت ظلال من هذه الصورة في الأذهان والعقول.
كلينت تيل Clint Till مخرج وكاتب فيلم Milky Way انتهج طريقًا معاكسًا لهذه الفكرة، لأنه حسب قوله:
"من المهم صنع أفلام كوميدية الآن، يحتاج الجمهور إلى الهروب، وأحب أن أكون الشخص الذي يجعلهم يضحكون".
من خلال هذه النظرة وتلك الفلسفة التي نراها إلى حد بعيد أصابت كبد الحقيقة، قدم لنا كلينت تيل عدة أفلام قصيرة مبهجة مصنوعة بحرفية عالية ودقة متناهية في الاهتمام بالتفاصيل، ورغم ما تتميز به من كوميديا اجتماعية خفيفة ومبهجة، لا تخلو من رقي ورفعة فنية وصنعة متقنة مع عدم الانزلاق والتردي في حفر الاستسهال وأوحال الرخص والابتذال الذي ما نزال نرى الكثيرين يعتبرونه الطريقة الوحيدة لاقتناص الضحكات من جوف أفواه المشاهدين، وحلب الأموال من جيوبهم.
ميلكي واي أو الطريق اللبني (من اللبن أو الحليب) هو فيلم بسيط يدور حول موقف ربما يكون مألوفًا بالنسبة لأي زوجين حديثين في أي مكان حول العالم: بيدج (الزوجة الشابة) وزوجها جاريد يعانيان من عذاب الاعتناء بابنتين واحدة منهما حديثة الولادة.
تقرر الزوجة شراء معدات إرضاع لجمع لبن الأم وحفظه في زجاجات بلاستيكية لتتمكن الصغيرة من تناوله لاحقًا دون أن تتسبب في تعذيب الأم التي لم تستطع احتمال الرضاعة الطبيعية وفي نفس الوقت لا ترغب في أن تعرض ابنتها لأمراض مستقبلية ومعاناة نتيجة تناول الألبان الصناعية.
يبدأ الفيلم بوصول الطرد الذي يحوي هذه المعدات والتي كانت الأم تظنها سهلة الاستعمال لكنها تفاجأ بكتاب تشغيل يزيد ربما عن أربعمائة صفحة، فتبدأ رحلة الزوجين مع فك طلاسم الجهاز وتجارب التشغيل الفاشلة أو التي يتم إفشالها من خلال مواقف ومفارقات كوميدية عديدة، لكن الشابة الدؤوب تستمر في المحاولة رغم الإرهاق والصدمات والحوادث التي تمر بها حتى تنجح أخيرًا في مهمتها وتعبئ عدة زجاجات باللبن الذي يستمر صالحًا للاستخدام (حسب كتاب التشغيل) لمدة أربع ساعات (إذا حفظ في الثلاجة الكهربائية). لكن مع لمعة الفوز في عينيها تنقطع الكهرباء ويجيء خبر كالصاعقة عليها إذ يعرف الزوج من خلال تطبيق على الهاتف أن انقطاع الكهرباء العرضي سيستمر لمدة تتراوح بين الخمس والست ساعات.. يعني اللبن سيفسد.
المفارقة الساخرة أو ال irony هي الوحدة التي تشكل التقنية الفنية الرئيسية التي يُبني الفيلم بتكرارها، المفارقة منذ اللحظة قبل الأولى حيث العنوان (الطريق اللبني)، وهو اسم مجرتنا التي نعرفها أيضًا في اللغة العربية باسم (درب التبانة)، هذه الإشارة الكونية الجادة والمهمة والضخمة تمتزج بمعنى آخر بسيط يعتمد على المعنى اللفظي المباشر لكلمتي Milky (لبني) وWay (طريق أو طريقة).
مفارقة أيضًا عندما يعرف الزوج سعر هذا الجهاز الجديد فينصدم بينما هي سعيدة بآلتها الجديدة، تلحقها سريعًا مفارقة أخرى إذ تكتشف الزوجة أن الجهاز الذي يعلنون عنه بوصفه (سهل الاستخدام) سيتطلب منها قراءة كتيب التشغيل الضخم. عندما تصل الأم مداها من الإرهاق وتفكر في الاسترخاء أو الراحة قليلا تتسلل طفلتها الشقية فتزيد سرعة الجهاز مما يسبب صعقًا كهربيا للأم، التي تجاهد وتناضل وتستمر في المحاولة بعد أن اصطحب الأب الطفلة إلى الحديقة وعندما تستطيع أخيرا تشغيل الجهاز وبينما هي مربوطة بوصلاته يطرق الباب مبشر إنجيلي شديد الإصرار على تقديم عظة لها حتى بعد أن تخبره بأن الوقت ليس مناسبًا لكنه يلح مؤكدًا أن الحديث لن يستغرق سوى بضعة دقائق، فتضطر أخيرًا للاستجابة لتوسلاته وتفتح الباب بينما زجاجات الحليب وخراطيم المضخة موصلة بصدرها فيفاجئ المنظرُ المبشرَ الذي كان للمفارقة قد بدأ يتلو من خلف الباب نصًا إنجيليا يتحدث عن خروج موسى بقومه من مصر واعدًأ إياهم بأرض ملؤها (اللبن والعسل)!!
وأخيرًا طبعًا مفارقة انقطاع الكهرباء التي وصلت بالصدمات الكوميدية مداها.
قد يكون اختيار الممثلين أو الكاستينج من أهم أسباب نجاح هذا الفيلم وربما كل الأفلام الكوميدية، لورين كوكس في دور بيدج وإيفريت أندرسون في دور جاريد، وفي دور القس خفيف الظل كاتريك كوبلاند وأخيرًا الطفلة زوي لوندن التي أدت دور الابنة الشقية، الجميع كانوا مناسبين جدًا لأدوارهم سواء بالبهجة التي تشيعها وجوههم البسيطة التي تشع طيبة وودًا وتعطي صلة مباشرة بين الشخصيات والمشاهد الذي يرى نفسه بسهولة فيهم، وأيضًا أداؤهم الذي يمتاز بالسلاسة وعدم التكلف والتعايش التام مع أدوارهم وهو الأمر الذي يبدو للمشاهد سهلا لكنه وقت التصوير قد يكون شاقًا إلى حد بعيد حتى لا يتردى الممثل في فخ السطحية. حتى الطفلة زوي كانت مندمجة تمامًأ في الدور تؤدي باحترافية عالية وهو أمر من الصعب إحكامه للغاية عندما نتحدث عن طفلة لا تتعدى السنتين أو الثلاث سنوات ومطلوب منها الالتزام والتعامل مع الموقف الذي تمثله والممثلين الذين معها والكاميرا والمخرج وفريق التصوير الذي مهما كان صغيرًا فوجوده قد يكون مربكًا لصغيرة في هذا السن، لكنها مع ذلك أدت دورها بإتقان ملفت، وهو ما نستطيع بسببه الثناء على المخرج الذي لم يتساهل مع دورها وبالتأكيد تطلب الأمر تدريبًا لها ومعايشة بينها وبين أجواء العمل لتصل إلى الظهور على الشاشة بهذا القدر من الإجادة؛ فمن المعروف أن توجيه الأطفال من أكثر التفاصيل صعوبة في العمل السينمائي.
استطاع صانع الفيلم أن يضفي ما نسميه بهجة، فلا نقول كوميديا أو استجلابًا للضحك؛ بل هي حالة من السعادة تتجلى في جميع التفاصيل: موقع التصوير البسيط الذي رغم أنه ليس ضخما لكننا يمكننا وصفه بأنه منبسط، شقة نرى منها غرفة معيشة ومطبخ مفتوح عليها وغرفة أخرى للنوم لا ندخلها لكنها تبدو في الخلفية ويفترض أن الرضيعة (التي لا نراها طوال الفيلم لكن فقط نسمع صوتها) موجودة فيها. الاكسسوار من لعب الأطفال الملونة بألوان زاهية منتشرة في كل مكان. غطاء الأريكة الصوفي الملون. الإضاءة من طبقة إضاءة عالية High Key وتباين منخفض استخدم لتحقيقه الضوء الناعم كما حاول مدير التصوير تأكيده من خلال فلاتر التنعيم والدخان الخفيف (الذي ربما كان مبالغًا في بعض اللقطات). أيضًا حركة الكاميراً الناعمة المحدودة التي لا تخطف العين وأخيرًا حركة الممثلين التي بدت مصممة بعناية لتبدو كما لو كانت حوارًا خاصًا راقصًا متناغمًا يوازي جمل الحوار المنطوقة ويؤكد روح الفرحة والأمل المستمر بطول الفيلم رغم الصدمات التي تصيب شخصياته، لكن روحهم المتألقة تؤكد يقينهم بقدرتهم على الصمود والتحدي والتخطي.
الموسيقى أيضًا في الخلفية أكدت روح المرح هذه رغم أنها ليست مؤلفة خصيصًا للفيلم لكنها اختيرت بعناية من موسيقات مرحة لها تاريخ دلالي راسخ في أذهان الجماهير، ربما؛ ليس في الولايات المتحدة فقط بل في مختلف دول العالم، وسيذكر المشاهد حتى عندنا بعض هذه الألحان سمعها مرة أو أخرى في خلفية فيديو لعيد ميلاد أو لحفل سبوع مولود جديد، فقد كانت تأتي ضمن برامج المونتاج الخاصة بالهواة كمرفقات للتجربة، لذلك فمجرد توظيفها حقق توليدًا لعواطف وذكريات لا نهاية لها لدى المشاهدين، ومعظمها دون شك ذكريات مبهجة.
فيلم (الطريق اللبني) هو فيلم قصير يمارس باحتراف هوليودي لعبة البهجة، ويتوغل بهدوء حكيم في اليوميات البسيطة لحياة الناس العاديين، حيث لا يشترط أن يكون الموضوع خرافيًا ولا الشخصيات خيالية لتصنع فيلمًا جميلا يسجل اسمك في التاريخ المنصف لفن السينما.
أحمد صلاح الدين طه
الأربعاء 25 ديسمبر 2024
dedalum.info@gmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق