مرحبًا بكم في ديدالوم مجمع الفنون

منصة الفن والأخبار الثقافية الرائدة

أحدث الأخبار والمقالات

بحث Search

‏إظهار الرسائل ذات التسميات Omeleto. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات Omeleto. إظهار كافة الرسائل

الاثنين، مايو 12، 2025

فتيات الرنجة.. أن تكوني سمكة بين فتيات عملهن تقطيع الأسماك

 

Rekha Garton The Herring Girls


  دون شك، القلق هو السمة الغالبة على إنسان العصر الحديث.. قلقك من مكانك الذي تعيش فيه، وزمانك الذي تشعر أنه الزمن الخطأ لشخص مثلك، وقلقك من الناس الذين يعيشون حولك وتسمعهم خفية يتلاسنون عليك، نوع من المؤامرة.. أو تسالي الفتيات بالنميمة على شخصك الذي يجدونه غريبًا لا يصلح أو لا يمكن أن يكون واحدًا منهم، هذا الاعتقاد الذي يفصلك للأبد عن محاولة التعايش لأنه يقسم البشر من البداية إلى أنا في جهة وآخرين في جهة أخرى، وكلا الطرفين لا نقول لن يلتقيا، بل لا يجب التقاؤهما. مزيج غير متجانس في كأس واحد: ماء ورمال، لن يتذاوبا أبدًا ولو قلَّبَتهم ملعقة القدر إلى الأبد.

  تحكي القصة عن (آنّا) أو (أناج) تبعًا للنطق الاسكتلندي.

  فتاة تعيش في نورفولك شمال اسكتلندا في قرية صغيرة للصيادين. تشعر بالوحدة. تعيش في كوخ بسيط وتسمع وهي مختلية بنفسها في الغابة قريناتها من الفتيات اللاتي يعملن مثلها في شق بطون الأسماك وتمليحها. تسرن متنزهات وتتندرن بالنميمة عنها، فهن لا يعتقدن أنها مثلهن، لماذا؟ لا نستطيع التخمين، فهي في مظهرها فتاة مثل كل فتاة باستثناء قلقها وهواجسها الدائمة، صلاتها ليلًا وتضرعها الشديد الذي يوحي أنها خائفة جدًا، تعاني همًّا لا يمكن لشخص تحمله خاصة وهي فتاة صغيرة وحيدة. تختم إحداهن حديثها بذكر أن الكنيسة ستتولى أمرها.. يضحكن ضحكة صفراء، وينصرفن.

  لا يعرض الفيلم في البداية أي خلفيات حول آنَّا، من أين جاءت، ولم هي مختلفة عنهن.. أين أهلها؟!

  تشير إحدى الفتيات في حديثها اللاهي إلى أن والد آنَّا انتهى أمره في (الخل)، كما تحدثن عن كون فتاة لا أم لها (مثل آنا) يجب أن تختبئ، لماذا؟ لا نعرف، ولا ندرك أيضًا كيف تكون الفتاة بلا أم! هل يقصدن أن أمها ماتت، أم أنها ليست لها أم على الإطلاق؟!

  لاحقًا في عبارة غامضة تقول إحدى الفتيات التي تبدو أكبرهن سنًا وهي تفتح كتابًا ضخمًا قديمًا: "ابنة للبحر والسحر" في إشارة لآنا التي عرفن أخيرًا سرها.

  تتوق آنا دائمًا إلى البحر، تهرب إليه وهي تشعر بالاختناق كأنها سمكة خرجت من الماء، تشعر بالحزن والخزي حتى أنها تبكي وهي تملح الأسماك، تفعل مثل جميع الفتيات الأخريات في قرية الصيد تلك.. لكنها ليست مثلهن! هل تعاني مرضًا نفسيًا؟! ربما، في أحد مشاهد وحدتها تتضرع: 

"إلهي.. إنني على وشك أن أفقد عقلي"!

  يبدأ (فتيات الرنجة) كفيلم نفسي واقعي، لكنه ينقلب إلى الفنتازيا عندما نكتشف أن معاناة آنا ليست أزمة نفسية فقط، لكنها بالفعل تتحول إلى واحدة من عرائس البحر، وعروس البحر وإن كانت كائنًا غريبًا نادرًا، لكنه أول الأمر وآخره نوع من الأسماك وقع بين أيدي فتيات عملهن تمليح الأسماك.

  تعتمد المخرجة مؤلفة الفيلم على خاصيتي الانفتاح وفراغات السرد لتجعل من فيلمها عالمًا رحبًا رغم قصر زمن عرضه الذي لا يتخطى ستة عشر دقيقة، بداية من الانفتاح المكاني حيث تختار مكانًا للأحداث شديد التميز في بقعة باردة من أقصى أطراف الأرض شمال بريطانيا، وهي بيئة خصبة وغنية بالجماليات والتنوع البصري ومكان بكر لم يتم حرقه في أفلام كثيرة. مكان لم يعتد معظم المشاهدين رؤيته على الشاشات، زاد من قيمة المكان توظيف الشاشة العريضة التي تسمح لنظر المشاهد بالتمدد الأفقي والإحساس بالأماكن المفتوحة (اللاندسكيب) اللانهائي في مشاهد البحر والجبال والغابات.

  ينفتح الفيلم أيضًا على التاريخ، فيستدعي هذا المسمى الذي قد لا يكون عصريًا تمامًا وهو (فتيات الرنجة). طبعًا عندنا نحن نعرف الرنجة وهي أكلة مفضلة لكل من يهربون من أنواع الأسماك المحفوظة الأخرى من فسيخ لسردين مملح لملوحة، لكننا لا نعرف الكثير عن فتيات الرنجة وهو إصطلاح أطلق في بداية القرن العشرين على نساء بصرف النظر عن كونهن ناضجات، متزوجات، أو مراهقات صغيرات؛ جميعهن تسافرن للعمل في معامل تجهيز أسماك الرنجة، وكان ذلك عصر رواج للصيد حيث استخدمت السفن البخارية الضخمة التي كانت تعود بعد جولتها في بحر الشمال أو شمال المحيط الأطلسي بكميات هائلة من الأسماك، ولما كان معظم الرجال اتجهوا للعمل على متن هذه السفن بقيت مهمة العمل على الشاطئ للنساء، وهكذا كان بالإمكان أن توجد قرية مثل تلك التي تظهر في الفيلم حيث لا يوجد بها إلا النساء، وكان هذا واقع تلك القرى الذي يستمر حتى عودة الصيادين إلى البر، وهو ما سمح بتغير اجتماعي جذري في تاريخ أوروبا حيث استطاعت العاملات والصيادون الهروب من نظام العبودية لملاك الأرض الذي كان سائدا في أوروبا حتى ذلك الوقت. أي أن عصر فتيات الرنجة كان نقطة فاصلة في تاريخ الأوروبيين واستمرت صناعتهن رائجة حتى ستينيات القرن الماضي عندما أدى الصيد الجائر إلى القضاء على الوفرة المتاحة من الأسماك، لكن مع ذلك لم تعد النساء ولا رجالهن من الصيادين إلى قراهم مرة أخرى فقد كانوا اعتادوا على الحرية.

  ينفتح الفيلم أيضًا على الميثولوجيا، فيوظف أسطورة قديمة هي أسطورة عرائس البحر، الفتاة التي نصفها امرأة ونصفها سمكة، ظهرت منذ القدم في هيئة السيرينات البحريات عند اليونانيين، وذكرتهن قصص ألف ليلة وليلة، وما زلنا نسمع تأكيدات على أنهن حقيقة وإن اختلفت أشكالهن في الواقع عن تلك الحكايات الأسطورية، لكن على كل حال دائما كانت عروس البحار تظهر في الأساطير والحكايات القديمة للبحارة الذكور فتجذبهن بجمالها الأخاذ ليقعن في شباكها وتصيدهن ليصبحن طعامًا لأبنائها البحريين الذين ينتظرون عودتها بصيد جديد، طعام من لحم بشري شهي بالنسبة لهم حيث تنقلب الآية كما يقول المثل "تيجي تصيده يصيدك"، لكنها في قصتنا هذه تظهر بين مجموعة من الفتيات، وليس الذكر كالأنثى؛ لذلك ينتهي أمرها نهاية مأساوية.

  وبما أن عنوان الفيلم يذكر أنه: (حكاية عن الجنون والسحر وحوريات البحر)؛ تبقى لدينا حالتان أخريان للانفتاح تظهران بوضوح من خلال الفراغات السردية، التي تعني هذه المساحات التي لا يراها المشاهد على الشاشة ولا يسمعها في الحوار لكنه يُترك لخياله فرصة إكمالها، فنحن نتعرف على الأزمة النفسية التي تعانيها البطلة وإشارتها في تضرعها إلى أنها على وشك أن تفقد عقلها، لكن الفيلم لا يتوسع في وصف تفاصيل مرضها، بل يترك ذلك لخيالنا. أيضا نرى (آنا) تكتشف أشياء أمام بيتها كأنها هدايا تأتيها من شخص غريب، مرة ثمرة غريبة على شكل نجمة البحر ومرة برطمان عسل. مَن أتى به؟ ومن أين؟ ولماذا؟ وما هي رمزية هذه الأشياء؟!

  يترك السرد هذه المساحة فارغة ليملأها خيال المشاهد. كذلك نرى الفتيات يؤدين طقوسًا ويضئن شموعًا، ونرى كبراهن تقرأ في كتاب قد يكون كتاب طلاسم سحرية لكنهن جميعًا قرويات لا يمكن أن نعتبرهن يعرفن القراءة والكتابة، وهكذا المتروك أكثر من المطروق ومساحات الظل أكثر قدرة على تحفيز مخيلة المشاهد من المناطق المضيئة.

  دائمًا عندما نشاهد فيلمًا مخرجه في الأصل مصور نتوقع سيمفونية بصرية من التوافق والتآلف والتعبير الجمالي المرئي، ومخرجتنا هنا (رِخا جارتُن Rekha Garton) التي هي في الأصل مصورة فوتوغرافية لا تخيب ظننا، فقدمت تشكيلات أخاذة وروت قصتها الخرافية بصورة ساحرة زادت الموضوع غموضًا وجعلت التفاصيل تنطق وتعبر عن كنوزٍ ضخمة لم يكن من الممكن تكثيفها بهذا الشكل في مدة الفيلم المحدودة إلا بصريًا.. يستطيع المشاهد أن يكتم الصوت ويتابع تدفق اللوحات الجميلة على الشاشة كأنه يشاهد معرضًا لواحد من كبار الفنانين الكلاسيكيين، سواء في المشاهد الداخلية حيث لعبت بالضوء البارد الناعم (الأزرق قليل التشبع) الذي يمثل ضوء القمر المتسلل من نافذة الفتاة الوحيدة معبرًا عن ضعفها ووحدتها وكآبة وضعها وألمها النفسي.

  درجات اللون الأزرق الباردة كانت طوال الفيلم مرتبطة بآنا سواء في المشاهد الداخلية أو الخارجية، ومن الواضح من مشاهدتنا للفيلم حرص المخرجة على أن يكون الفيلم بالكامل مصورًا في أجواء شتوية بضوء ناعم (مشتت Diffused)، رغم أنها في أحد تصريحاتها تكلمت عن مصادفة أن الشمس خانت توقعاتهم وسطعت رغم كل التخطيط الذي خططوه ليكون التصوير في أجواء باردة تعبر عن المناخ الحقيقي الذي عملت فيه فتيات الرنجة في الماضي، ومن جهة أخرى يعبر عن الحالة النفسية للبطلة، وهو تصريح ذكرني بقصة لأحد المخرجين الروس الكبار عندما وقع في ظرف معاكس حيث سافر، هو وفريق العمل، إلى بلدة بعيدة مشهورة بشمسها الساطعة، وكانت الشمس هي المصدر الأساسي وربما الوحيد للإضاءة في بدايات السينما، لكنهم عندما وصلوا أرض الشمس وجدوا غيومًا روسية كثيفة سبقتهم إليها وظلت الأجواء ملبدة هكذا طوال ثلاثة شهور، ظل الفريق السينمائي خلالها محبوسًا في الفندق. يستيقظون للعب ألعاب التسلية وتناول الطعام واحتساء المشروبات الروحية على حساب مؤسسة السينما الروسية ثم ينامون مرة أخرى حتى استدعتهم المؤسسة بعد أن صرفوا ميزانية الفيلم دون تصوير فريم واحد، رِخا جارتُن على العكس استطاعت تطويع الشمس التي فاجأتها، ربما استعانت بخبرتها الأصلية كمصورة أو بخبرة مدير تصوير الفيلم (روث وودسايد Ruth Woodside) للتحايل على الشمس التي ظهرت قليلًا على استحياء متسللة من بين الأشجار الكثيفة في الغابة ومن زاوية مقابلة للشمس حتى تحتفظ الصورة ببرودتها وشيوع مناطق الظل.

  ترتبط شخصية آنا في الفيلم بلون القمر البارد حتى عندما نجد شمعة بلون برتقالي دافئ تفاجئنا بالنفخ فيها لتعيد منظومة اللون الأحادي المرتبطة بها، لكن مع ظهور الأخريات تظهر معهن الشموع التي توازن بضوئها اللون الأزرق في البداية، وتزيد مع تقدم السرد حتى تطغى الألوان الدافئة والإضاءة الساطعة في بيت فتيات الرنجة الأخريات.

  من المشاهد الممتعة بصريًا كانت مشاهد التصوير تحت الماء والذي بدا كرقصة باليه مائي وهي مشاهد ستأخذك رغمًا عنك للصور الفوتوغرافية التي تصورها رخا جارتن وأجوائها الفاتنة، حركة الجسد وفقاقيع الماء، أصوات الحيتان والموسيقى ذات الطابع الكلاسيكي، والإضاءة الخلفية اللامعة مع أجواء عامة يشيعها الضوء الأزرق الناعم والتعريض المنخفض الذي تبدو معه الصورة قاتمة غامضة مشبعة بالشجن الرومانسي.

  (فتيات الرنجة) قطعة من الفن الأصيل، عمل ملهم، سيتركك بعد مشاهدته ممتلئًا بحالة روحية نادرة مفعمة بالتأمل والتساؤلات.. عن حالة آنا (التي قد تكون أنت أو أنا في لحظة الغربة أو حالة الاغتراب)،  ستتساءل أيضًا عن موقف فتيات الرنجة، الأخريات، اللاتي بدورهن قد تكن (نحن) في موقف مفارقة أخلاقية بين القلب والعقل، بين تعاطفنا تجاه شخص بائس غريب خرج من بيئته رغما عنه كالمهجَّرين واللاجئين مثلًا، وبين واجبنا نحو الحفاظ على تجانس المجتمع وأمنه وسلامته.

  فيلم مثل هذا يوضح لمن يريد أن يعرف ما المقصود بأن الفن رسالة، الفن لا يكتسب قيمته من تحميله بالرسائل الأخلاقية أو الوطنية أو المواعظ، لكن الفن في حد ذاته رسالة، الفن دوره فتح العقل وحفز المتلقي للتفكير، لا دفعه أو توجيهه أو اتخاذ القرار بدلا عنه.

أحمد صلاح الدين طه

١١ مايو ٢٠٢٥

dedalum.info@gmail.com

 

لمشاهدة الفيلم على يوتيوب اضغط هنا

لمشاهدة الفيلم على فيميو اضغط هنا

 

Rekha Garton The Herring Girls



الاثنين، أبريل 21، 2025

"إنهم قادمون الليلة".. القلق في غير محله: فيلم قصير يستكشف مخاوفنا العميقة بذكاء صادم

 

إنهم قادمون الليلة They're Coming Tonight


  في السينما -عادة- ما تكون الإجابات السهلة، والرؤى الواضحة الجلية مضللة، باستثناء أفلام الهواة؛ لأن أهل الدراما يضعون نقاط تحول صادمة.. بقدر ما تبدو عليه البدايات من انكشاف يجب أن يأتي التحول أو ال(تويست) عنيفًا، وهذا ما اعتمد عليه صانع الفيلم الأمريكي الشاب (جون بونر John Bonner) مؤلف ومخرج الفيلم القصير (إنهم قادمون الليلة They're Coming Tonight) عندما أسس مجموعة من التصورات ونماها في ذهن المشاهد ليصدمه بنهاية غير متوقعة.

  فيلم They're Coming Tonight يتناول قصة زوجين، متآلفين، شديدي الرقة في علاقتهما معًا، كأنهما خارجين توا من فيلم رومانسي قديم. لكنهما يواجهان قلقًا وجوديًا يهددهما؛ إنه الآخرون. الزوج القادم توًا من الخارج يصارح شريكته: "إنهم قادمون الليلة"، لا يشير الحوار إلى كنه القادمين، من هم؟ ماذا يريدون؟ ما الذي يدفعهم لتتبع هذين الزوجين، وما الخطر الذي يمثله قدومهم؟ 

  أسئلة لا إجابات لها مما يشكل مزيدًا من القلق، ويكون على الزوجين أن يستعدا، يحضِّرا نفسيهما بخطة تساعدهما على تجاوز محنتهما؛ يبدآن في إعداد المنزل يغلقان الأبواب ويتأكدان من غلق جميع المتاريس (رغم أن النوافذ الزجاجية تترك ثغرة لن تُسد) وترتدي الزوجة فستانًا وباروكة ذات شعر أشقر!

  تجيء اللحظة الحاسمة، وتواجه الزوجة بمظهرها الجديد الغرباء الذين يقفون إزاءها بأزياهم العجيبة التي تخفي أجسادهم ووجوههم تمامًا وتضفي على مظهرهم نوعًا من الغرائبية كأنهم عفاريت أو فضائيون أو فقط أناس متخفون في زي خاص. الزوجة تواجههم بثبات محاولة إخفاء قلقها، والزوج مختبئ قريبًا منها حاملًا في يده سكينًا لا يبدو أنه كفيل بحل الصراع مع هذه الكتيبة من الغرباء الذين يبدو من الواضح أنهم يبحثون عن امرأة معينة لأنهم لم يلتفتوا مطلقًا لوجود الرجل.

  تنطلي الخدعة على القادمين الذين يحملون رسمًا يوضح ملامح المرأة التي يبحثون عنها والتي ليست شقراء كما تظهر أمامهم، وإن كان المشاهد يدرك الآن بعد مشاهدة لقطة مقربة للرسم في أيديهم أنها هي نفسها تلك المرأة؛ يغادرون في هدوء وينتصر الزوجان على مخاوفهما، يحتفلان بنجاتهما.. 

  هل هذه النهاية؟ 

  أبدًا هنا نقطة التحول التي تهدم كل توقعاتنا وتغير كل المفاهيم التي بنيناها طوال مدة الفيلم.

  يعتمد صانع الفيلم على تلك الأداة السردية التي تحدثت من قبل عن أهميتها للغاية بالنسبة للأفلام القصيرة، والتي -وإن وجدت- في الأفلام الطويلة أيضًا لا يصبح وجودها بنفس الأهمية، ألا وهي (خاصية الانفتاح) التي تعني باختصار تشعع النقاط السردية (أو تشجرها أو تفرعها) على خط السرد بحيث يمكن للمدة الزمنية القصيرة التي ينحصر الفيلم خلالها من أن تحوي الكثير والكثير من المعاني والأحداث والتفصيلات التي لا يضطر صانع الفيلم لذكرها وإنما يعتمد على المشاهد وقدرته على استدعاء التفاصيل من الذاكرة الجمعية للبشر عامة أو لجماعة ثقافية محددة.

  بداية؛ توظيف الصورة بالأبيض والأسود تفتح ذاكرة المشاهد على تاريخ طويل من كلاسيكيات السينما، وإذا أضفنا المظهر العام للديكور والملابس وطريقة أداء الممثلين وحتى تصفيف الشعر أو باروكة البطلة واسم البطلة (إنجريد) والموسيقى التصويرية، كل ذلك يذكرك مباشرة بأفلام الرعب القديمة، لقد كان سهلا على كثيرين ممن شاهدوا الفيلم على اليوتيوب (حسب تعليقاتهم) أن تستدعي أذهانهم على الأقل فيلم رعب كلاسيكي هو (ليلة الموتى الأحياء Night of the Living Dead) ١٩٦٨م.، وأنا عن نفسي ترن في أذني عبارة من هذا الفيلم تبدأ عندها أحداثه المفجعة التي تنتهي كالتراجيديات الشكسبيرية بموت جميع الأبطال، حيث يصيح الأخ (غير المؤمن) لاهيًا مع أخته (الطيبة) أمام قبر أبيه: "They're coming for you Barbra إنهم قادمون من أجلك باربرا"، وطبعًا كما يقول المثل عندنا في مصر: "يا قاعدين يكفيكم شر الجايين"؛ فمع نهاية العبارة يظهر أول شخص من الموتى الأحياء فيقتل الأخ اللاهي ويطارد الأخت هو ومن معه من جماعات الزومبي.

  أيضًا تذكر التعليقات مسلسلًا قديمًا شهيرًا أيضًا وهو مسلسل (منطقة الشفق The Twilight Zone) وهذا المسلسل يتناول قصصًا منفصلة عن أناس عاديين يجدون أنفسهم فجأة في ظروف غير عادية، على سبيل المثال في الحلقة الأولى يقضي انفجار غامض على جميع السكان في مدينة وينجو منه شخص وحيد هو محاسب بأحد البنوك كان هاربًا من صخب مجتمعه، مختبئًا للحظات داخل خزينة البنك شديدة التأمين ضد الانفجار، خرج منها ليجد نفسه وحيدًا في المدينة، وهكذا كان موضوع حلقات المسلسل جميعها يتناول قلق الإنسان، خوفه ليس من الموت؛ لكن من ألم البقاء وحيدًا.

  نفس عنوان الفيلم (They're coming tonight) يفتح ذاكرة المشاهد على كم كبير من الأفلام التي حملت نفس الإشارة بشكل مباشر أو ضمني إلى قادمين غرباء بحلولهم تنقلب حياة القاطنين رأسًا على عقب سواء كان القادمون من عالم الأشباح الذي يخاطب مخاوف ذوي التفكير الخرافي أو الغيبي مثل فيلم (They're Coming to Get You)، وربما يكون القادمون من عالم الفضاء في الأفلام التي تخاطب مخاوف المستقبليين وقلقهم الدائم من وضع الإنسان على الأرض وأهميته في الوجود. أيضًا قد يكون القادمون فقط هم الأعداء كما في الفيلم الشهير (الروس قادمون) الذي يخاطب بدوره مخاوف الواقعيين من قدرة الأمان الحالي على الاستمرار في ظل تهديد مستمر من خارج منظومته.

  أفيش الفيلم نفسه يحاول استدعاء أفلام أواسط القرن الماضي بأسلوب تصميمه اعتمادًا على صورة مرسومة يدويًا بألوان تذكرك مباشرة ببوسترات الأفلام المطبوعة بطريقة (الأوفست الليثوغرافية) بألوانها قليلة التشبع التي تعطي مظهر القدم بخلفيتها الصفراء الباهتة. حتى الرسم الذي يمثل البطلين يكرس المظهر الأبوي الشائع في ثقافة تلك الفترة حيث البطل يبدو متحفزًا ينظر إلى الأمام محاولا حماية حبيبته التي يمسك بكتفها بقبضته القوية داعمًا بينما هي خلفه تنظر إليه بوله ورجاء، وأناملها المتمددة على صدره تشي بالاعتمادية والسكن.

  الفيلم هنا اعتمد على ذاكرة المشاهد المولع بالسينما وبقصص الغرائبيات على وجه الخصوص، ليس ذلك فقط، لكنه من جهة أخرى استدعى تاريخًا قريبًا ما يزال أكثرنا يذكره؛ العزلة التي اضطر سكان الأرض جميعًا للالتزام بها على مدى العقدين الماضيين مع ظهور الأوبئة الصادمة المتعددة منذ وباء سارس وإنفلونزا الطيور ثم الخنازير وحتى وباء كوفيد١٩ الذي كان له الأثر الأكبر في تقييد حريات الناس وإجبارهم بقوة القانون أو بسلطان الخوف على البقاء في منازلهم. أول ما تستطيع استنتاجه بعد أن تتأمل زي الغرباء القادمين أنهم جماعة من محاربي الأوبئة يحاولون العثور على مصاب بفيروس خطير لعزله ومنع انتشار المرض، لكن ما هو هذا المرض الخطير، ومن من ساكني البيت مصاب به؟

  من الحوار، من جملة تبدو عابرة لكنها موجزة بليغة ككل جمل الحوار الجيدة؛ نفهم أن كليهما مصاب، لكن المرأة هي من نقلت العدوى لزوجها، فهي تقول له: "آسفة أنني جعلتك جزءًا من ذلك"، لكن ما هو ذلك؟! ما المرض الذي قد يبدو مصابان به بهذه القوة والصحة الجيدة دون أن يشكل لهما المرض أي أزمة سوى الخوف والقلق من أن يكتشف أمر إصابتهما؟!

  يتركنا الفيلم معلقين حتى اللحظة الأخيرة، فنكتشف أن عواطفنا تجاه الزوجين اللطيفين الرومانسيين لم تكن في محلها، نكتشف أنهما وإن كانا ضحيتين للمرض الخطير إلا أنهما لا يستحقان الشفقة.

أحمد صلاح الدين طه

٢١ أبريل ٢٠٢٥

dedalum.info@gmail.com

  

لمشاهدة الفيلم على يوتيوب.. اضغط هنا

 

THEY'RE COMING TONIGHT

THEY'RE COMING TONIGHT

THEY'RE COMING TONIGHT

THEY'RE COMING TONIGHT

THEY'RE COMING TONIGHT

THEY'RE COMING TONIGHT

 

Translate ترجم إلى أي لغة

عام جديد سعيد 2025

أرشيف المدونة الإلكترونية

شرفتنا بزيارتك أنت اليومَ الزائر رقم