في أي من شوارع الرياض – عاصمة المملكة العربية السعودية - يعتبر استقلالك التاكسي أو سيارة الأجرة التي يسمونها هنا ليموزين مرحلة انتقالية تأخــذك إلى الحالة الهندوباكستانية – إذا جاز التعبير اختصارا ً لانتماءات متعددة لكنها في النهاية و رغم الاختلاف تجيء من شبه القارة الهندية أو الجزر و الدول القريبة منها ، يعني الهند ، باكستان ، أفغانستان ، بنجلاديش ، نيبال ، و ما إليها .
أما وصولك التام إلى هذه الثقافة أو الثقافات المختلفة بشكل كبير عن ثقافة المواطنين السعوديين فيبدأ عندما تبتسم لسائق التاكسي و تقول له : بطها . و طبعا هذه الكلمة تعني منطقة البطحاء التي يوجد بها سوق كبير للمنتجات الرخيصة المتنوعة . يكتظ بالناس لاسيما يومي الخميس و الجمعة ، و خاصة الجمعة ، حتى إن بعض الناس يطلقون عليه سوق الجمعة . في هذا السوق لن تشاهد سعوديا ً واحدا ً أو حتى عربيا إلا فيما ندر .. أيضا ً لن تتحدث العربية أو أية لغة أخرى معروفة ، بل ستلجأ إلى لغة وسط خليط من عربية مفككة و انجليزية ركيكة و بعض كلمات أوردية أو من لغات وسط آسيا و الهند ثم كلمات أخرى مجهولة الأصل تسأل عنها الهنود فيخبروك إنها عربية لتظنها مأخوذة عن بعض لهجات القبائل العربية في المملكة ، لكنك إذ تسأل السعوديين يقولون مخمنين : لا بد إنها أوردية ، ثم يأتيك من يقول : إنها – دون شك كلمات تركية .
في البدء .. كان التليفزيون ، و كان تقرير شاهدته على محطة التليفزيون السعودي الأولى عن سوق الجمعة في منطقة البطحاء ، و أدهشني فيه ذلك التشابه الواضح بينه و سوق العتبة في مصر .. تطابق مذهل تأكد تماما ً عندما عاينته بنفسي حتى إنني لاحظت بناية تصورتها المسرح القومي العريق الموجود في العتبة الخضراء .. لوهلة حينها اندفعت نحوه و أنا أرى كوبري علوي يماثل نظيره في مصر ، و تخيلت إنني سأجد إلى جواره موقف الأتوبيس و سور الأزبكية حيث الكتب القديمة القيمة تباع بأسعار في المتناول للجميع ، و طبعا محطة مترو الأنفاق .. كل ذلك عبر بخاطري لحظة ؛ ثم أفقت لأجد نفسي في قلب مدينة الرياض .
عندما شاهدت التقرير التليفزيوني أعجبني شيء أساس ، ألا و هو وجود الناس .. ياه بشر ؟! أخيراً !! خاطبت نفسي و قررت الذهاب إلى هذا السوق ؛ فحتى ذلك الوقت ما كنت رأيت أناساً يمشون في الشوارع إلا فيما ندر ، الأمر الذي يضيق له صدرك و يجعلك تحس كونك في زنزانة كئيبة حتى مع كل فخامة البنايات و سيارات الرفاهية تمرق إلى جوارك دون أن تدع لك فرصة لرؤية عيون الناس كي تشعر أن ثمة أرواحا ً حقيقية و نفوسا ً حية إلى جوارك تؤنس وحدتك .
المهم ، الطريق طبعا ً يبدأ كما ينتهي بليموزين أو تاكسي كما يطلق عليه بشكل عالمي ، و معظم سائقي التاكسي باكستانيون ، إلا إنك ستقابل بعض الجنسيات الأخرى ؛ فإذا صادفك سائق هندي و أخبرته إنه أول هندي تقابله ، سيبادرك بتنهده و قوله : الحين كله باكستاني ما يفهم شي .
طبعا ً ستلاحظ إنه أكثر أناقة و اعتدادا ً بنفسه من السائقين الآخرين ، و السبب سيسوقه هو إليك دون أن تسأل ؛ حيث يخبرك عن الأيام الخوالي حين كان في الرياض أعداد كبيرة من الأجانب ، أوروبيون و أمريكيون ، هؤلاء كانوا يدفعون بسخاء ، و أبداً لا يجادلون في قيمة التوصيل حيث ينظر أحدهم إلى العداد فيعطيك ما يسجله و يزيد بقشيشا ً أو يترك الباقي و يشكرك قبل أن يغادر ؛ حينها كنت ترى كثيرا ً من الهنود الذين يعرفون العربية و الانجليزية ؛ فهم متعلمون ، أما الآن فالسائقون يأتون من باكستان و بنجلاديش و نيبال لا يعرفون شيئا ً و بصعوبة يفهمون ما يقوله الراكب .
أما السائقون الباكستانيون و غيرهم فلا يضرهم أو يشغلهم السائق الهندي ، لكنهم ينقمون على المواطنين السعوديين و بالأخص كفلائهم ( جمع كفيل ) فبسبب هذه الفئة لن تجد أجنبيا ً واحدا ً يعمل هنا و لا ينوي العودة إلى بلده في أقرب فرصة ، و يخبرني سائق باكستاني كبير السن فيقول :
- هنا ظلم كبير .. كفيل هذا ظلم .. ما في إسلام ظلم .
طبعا ً أنا نفسي لا أستطيع فهم نظام الكفيل المعمول به هنا ، أو لماذا أوجد ، و ما الفائدة منه . بل أظنه عقبة في سبيل المملكة يحد تطورها أكثر من كونه مسيئا ً للأجانب .
أولا: يشوه وجود هذا النظام صورة المملكة أمام العالم ؛ فرغم إنها دولة تعلن تطبيق شرع الله و تعلي راية الإسلام ، يأتي نظام الكفيل بقعة سوداء في الثوب الأبيض ، حيث أعتبر عالميا ً واحدا ً من أواخر أشكال العبودية القائمة في العالم الحديث ؛ فيقارن في ذلك بأنشطة سيئة السمعة كالاتجار بالأطفال أو سرقة الأعضاء البشرية أو الدعارة ، و ما شابه ذلك .
و هنا أعلن سعادتي بما سمعت من سعي خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز ، حفظه الله ، من إلغاء هذا النظام و البحث عن بديل عملي أكثر حرصا ً على إقرار مبادئ حقوق الإنسان التي كفلها الإسلام قبل المنظمات الدولية المعاصرة . و ذلك أمر لو تم سيذكره به التاريخ أكثر من أي قرار آخر ، كما يحتسبه عند الله كمن حرر آلاف بل ملايين العبيد .
ثانيا ً : أوجد هذا النظام فئة من المواطنين لا عمل لها تجيده سوى تحصيل نسبة من دخول الأجانب ، و هو عمل يشبه نشاط البلطجية أو الفتوات الغير شرعيين . الذين يستحلون استقطاع أموال يشقى الآخرون لتحصيلها . هذه الفئة المتزايدة يوما ً بعد يوم تضر نفسها قبل الآخرين ، و تعتبر عقبة كأداء في سبيل تقدم المملكة .. فكيف يأتي اليوم الذي تعتمد فيه دولة على أناس لا يجيدون عمل أي شيء ، بل و يعتبرون العمل نقيصة ينفونها عن أنفسهم ، فإذا غادر العاملون الأجانب إلى بلادهم ؛ تصبح قاعدة العمالة – الأساس الذي تبنى فوقه كل الأنشطة الأخرى ، الاقتصادية و الحضارية – تصبح هذه القاعدة خاوية ؛ فينهار - لا قدر الله – البناء كله .
تذكرني هذه الفكرة بمرحلة تأميم قناة السويس في مصر ، و التي كانت مرحلة فارقة في تاريخ مصر الحديث . نراها الآن في ما تجلت به من ثورية مدروسة غير عشوائية القرار ، و نتساءل : أي مأزق كانت حكومة الثورة المصرية لتضع نفسها فيه لو لم تستطع استبدال مرشدي القناة و العاملين فيها – و كانوا أغلبهم من الأجانب – بطاقم عمل مصري ذي كفاءة شهدت بها الأيام .
هنا ، أعود فأعلن قلقي على مستقبل هذا البلد العربي الإسلامي الآخذ في النمو السريع ، من تزايد فئة المواطنين السعوديين غير ذوي المهارات هؤلاء ، و الذين تردهم أموال كثيرة تجعلهم يعيشون في رفاهية غير أصيلة لا شك تزول إذا غادرهم الأجانب و تركوهم لا يستطيعون صيد سمكة بينما كروشهم خاوية .. هذه الفئة لا يشكلها فقط مجموعة الكفلاء و أصحاب مكاتب الإستقدام ، بل نشأت جماعات أخرى تتاجر بأسمائها و انتمائها لهذا البلد .. و كي يصبح قصدي مفهوما ً يجب على القارئ أن يفكر في تواجد الكثير من الأجانب يعيشون في مختلف مدن المملكة و قراها منذ ما يزيد عن العشرين أو الثلاثين عاما ً ؛ و طبعا بعد هذه السنين و الشقاء و الغربة التي تجعل المرء ينفصل بشكل كبير عن الحياة في بلده الأم و أكثر ذكرياته في هذا البلد الذي لا يمنح جنسيته للكثيرين ، بعد كل هذا يفكر أن يؤسس لنفسه مشروعا ً تجاريا ً أو ما إلى ذلك ؛ و هنا تواجهه مشكلة كونه لازال عبر عقوده التي قضاها هنا يحمل لقب وافد ، أما الحل فهو غير بعيد و يكمن في استعارة اسم مواطن سعودي ليس له في هذا المشروع ناقة أو جمل ، فهو لا يدفع أي شيء للتأسيس ، و لا يشارك بالعمل أو ما شابه .. فقط الاسم .. و في المقابل يتلقى مبلغا ً سنويا ًدون أي تعب أو مخاطرة .
في نفس هذا السياق لفتت نظري شكوى من أحد المواطنين السعوديين في صحيفة محلية ، و هو واحد من هذه الفئة التي تؤجر اسمها لصاحب تجارة للمواد الغذائية مقابل حوالي مائة ألف ريال سنويا ً ، و هو يشكو لاعتباره أن المقيم صاحب التجارة يقوم بالنصب عليه و يخدعه ، و يذكر كم يربح هذا المقيم من تجارته و كم يصرف على العاملين و الإيجارات و الضرائب و ما إلى ذلك .. و بحسبة بسيطة تدرك إن للمواطن هذا نصيب الأسد دون أن يكلف نفسه أي مجهود أو مخاطرة يواجهها التجار عادة من خسارة إلى مكسب ، ومع ذلك يشعر بالحنق و يغبط المقيم .
إذا ؛ أوليس أولى بمثل هذا الرجل أن يتقدم ببدء مشروع يخصه ، إن ربح يكون له الربح ، فإن خسر تقوي الخسارة ظهره و تعلمه ليصبح قادرا ً على العمل الحقيقي و ليس انتظار ما يحصله دون وجه حق .. ثم يغبط الآخرين .
هنا ، لا بد من الإشارة لسائق ليموزين شاب ، لفت نظري بلهجته المحلية و الزى الذي يرتديه المواطنون هنا، حتى إنني سارعت بسؤاله عن جنسيته فأخبرني إنه فعلا ً سعودي ، و إن ثمة شباب كثير أصبح يعمل على سيارات الأجرة هذه . ثم حدثني عن مشكلة أخرى ؛ فقال إنه كشاب سعودي جمع ثمن هذه السيارة بصعوبة ؛ فهي سيارته و ليست كأي ليموزين أخرى تملكها شركة و تؤجرها بمائة و خمسين ريالا ً في اليوم لهؤلاء السائقين الأجانب الذين يكدون طوال اليوم و أحيانا ً يتبادل أكثر من سائق العمل على السيارة حتى يخرجوا بمكسب ما .. هذه الشركات المملوكة لسعوديين لا يهمهم أمر مواطنيهم ؛ فهم يكسبون أكثر من الوافدين الذين يستقدمونهم من دول شرق آسيا و يقبلون بدخول ضعيفة جدا ً لا يستطيع المواطن السعودي العيش بها ؛ فيخرج سريعا ً من دائرة المنافسة .
إذا ً ، فالسائقون السعوديون يحاربون هذه الشركات التي تدفع إلى سوق العمل بآلاف المنافسين لهم ، هؤلاء المنافسون بدورهم يحسون بظلم كبير واقع عليهم ؛ فهم تقتطع أجورهم الضعيفة أصلا ً ، و إن كانت هذه الأجور لا تصلح لعيش المواطن السعودي ؛ فهي بالتبعية لا تصلح لأي إنسان آخر و لكنهم يصبرون لأن لا خيار آخر لديهم ، فهم غرباء و حتى جوازات سفرهم لا يسمح لهم بحملها فيتقيدون برغبات الكفلاء الذين غالبا ً ما يستغلونهم و حتى لا يسمحون لهم بالمغادرة بسهولة ، فأحيانا ً يطلب بعض الكفلاء نقودا ً للسماح للأجنبي بالعودة لبلده ، فكأن الأجنبي هنا عبدٌ يشتري حريته كما كان يحدث في أيام الجاهلية .. أما شركات الليموزين هذه فيبدو إنها من القوة بحيث لا يستطيع أحد مجابهتها لا المواطن ولا الوافد .
على أي حال يبقى وجه مضيء تراه في سائقي الليموزين من الشباب السعودي ، فإلى حد ما تغيرت ثقافتهم بحيث يقبلون بالعمل و لا يجدون حرجا ً في أداء أي عمل شريف أيا ً ما كان شاقا ً و بسيطا ً ، و ذلك وجه رائع ؛ فالثقافات لا تتغير بسهولة ، بل تحتاج سنين طويلة و جهدا ً عظيما ً من أولي الأمر ، لأنها ببساطة وضع الأسس ، القاعدة ، التي يجب أن تكون قوية ليقوم عليها البناء شامخا ً .
أما وصولك التام إلى هذه الثقافة أو الثقافات المختلفة بشكل كبير عن ثقافة المواطنين السعوديين فيبدأ عندما تبتسم لسائق التاكسي و تقول له : بطها . و طبعا هذه الكلمة تعني منطقة البطحاء التي يوجد بها سوق كبير للمنتجات الرخيصة المتنوعة . يكتظ بالناس لاسيما يومي الخميس و الجمعة ، و خاصة الجمعة ، حتى إن بعض الناس يطلقون عليه سوق الجمعة . في هذا السوق لن تشاهد سعوديا ً واحدا ً أو حتى عربيا إلا فيما ندر .. أيضا ً لن تتحدث العربية أو أية لغة أخرى معروفة ، بل ستلجأ إلى لغة وسط خليط من عربية مفككة و انجليزية ركيكة و بعض كلمات أوردية أو من لغات وسط آسيا و الهند ثم كلمات أخرى مجهولة الأصل تسأل عنها الهنود فيخبروك إنها عربية لتظنها مأخوذة عن بعض لهجات القبائل العربية في المملكة ، لكنك إذ تسأل السعوديين يقولون مخمنين : لا بد إنها أوردية ، ثم يأتيك من يقول : إنها – دون شك كلمات تركية .
في البدء .. كان التليفزيون ، و كان تقرير شاهدته على محطة التليفزيون السعودي الأولى عن سوق الجمعة في منطقة البطحاء ، و أدهشني فيه ذلك التشابه الواضح بينه و سوق العتبة في مصر .. تطابق مذهل تأكد تماما ً عندما عاينته بنفسي حتى إنني لاحظت بناية تصورتها المسرح القومي العريق الموجود في العتبة الخضراء .. لوهلة حينها اندفعت نحوه و أنا أرى كوبري علوي يماثل نظيره في مصر ، و تخيلت إنني سأجد إلى جواره موقف الأتوبيس و سور الأزبكية حيث الكتب القديمة القيمة تباع بأسعار في المتناول للجميع ، و طبعا محطة مترو الأنفاق .. كل ذلك عبر بخاطري لحظة ؛ ثم أفقت لأجد نفسي في قلب مدينة الرياض .
عندما شاهدت التقرير التليفزيوني أعجبني شيء أساس ، ألا و هو وجود الناس .. ياه بشر ؟! أخيراً !! خاطبت نفسي و قررت الذهاب إلى هذا السوق ؛ فحتى ذلك الوقت ما كنت رأيت أناساً يمشون في الشوارع إلا فيما ندر ، الأمر الذي يضيق له صدرك و يجعلك تحس كونك في زنزانة كئيبة حتى مع كل فخامة البنايات و سيارات الرفاهية تمرق إلى جوارك دون أن تدع لك فرصة لرؤية عيون الناس كي تشعر أن ثمة أرواحا ً حقيقية و نفوسا ً حية إلى جوارك تؤنس وحدتك .
المهم ، الطريق طبعا ً يبدأ كما ينتهي بليموزين أو تاكسي كما يطلق عليه بشكل عالمي ، و معظم سائقي التاكسي باكستانيون ، إلا إنك ستقابل بعض الجنسيات الأخرى ؛ فإذا صادفك سائق هندي و أخبرته إنه أول هندي تقابله ، سيبادرك بتنهده و قوله : الحين كله باكستاني ما يفهم شي .
طبعا ً ستلاحظ إنه أكثر أناقة و اعتدادا ً بنفسه من السائقين الآخرين ، و السبب سيسوقه هو إليك دون أن تسأل ؛ حيث يخبرك عن الأيام الخوالي حين كان في الرياض أعداد كبيرة من الأجانب ، أوروبيون و أمريكيون ، هؤلاء كانوا يدفعون بسخاء ، و أبداً لا يجادلون في قيمة التوصيل حيث ينظر أحدهم إلى العداد فيعطيك ما يسجله و يزيد بقشيشا ً أو يترك الباقي و يشكرك قبل أن يغادر ؛ حينها كنت ترى كثيرا ً من الهنود الذين يعرفون العربية و الانجليزية ؛ فهم متعلمون ، أما الآن فالسائقون يأتون من باكستان و بنجلاديش و نيبال لا يعرفون شيئا ً و بصعوبة يفهمون ما يقوله الراكب .
أما السائقون الباكستانيون و غيرهم فلا يضرهم أو يشغلهم السائق الهندي ، لكنهم ينقمون على المواطنين السعوديين و بالأخص كفلائهم ( جمع كفيل ) فبسبب هذه الفئة لن تجد أجنبيا ً واحدا ً يعمل هنا و لا ينوي العودة إلى بلده في أقرب فرصة ، و يخبرني سائق باكستاني كبير السن فيقول :
- هنا ظلم كبير .. كفيل هذا ظلم .. ما في إسلام ظلم .
طبعا ً أنا نفسي لا أستطيع فهم نظام الكفيل المعمول به هنا ، أو لماذا أوجد ، و ما الفائدة منه . بل أظنه عقبة في سبيل المملكة يحد تطورها أكثر من كونه مسيئا ً للأجانب .
أولا: يشوه وجود هذا النظام صورة المملكة أمام العالم ؛ فرغم إنها دولة تعلن تطبيق شرع الله و تعلي راية الإسلام ، يأتي نظام الكفيل بقعة سوداء في الثوب الأبيض ، حيث أعتبر عالميا ً واحدا ً من أواخر أشكال العبودية القائمة في العالم الحديث ؛ فيقارن في ذلك بأنشطة سيئة السمعة كالاتجار بالأطفال أو سرقة الأعضاء البشرية أو الدعارة ، و ما شابه ذلك .
و هنا أعلن سعادتي بما سمعت من سعي خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز ، حفظه الله ، من إلغاء هذا النظام و البحث عن بديل عملي أكثر حرصا ً على إقرار مبادئ حقوق الإنسان التي كفلها الإسلام قبل المنظمات الدولية المعاصرة . و ذلك أمر لو تم سيذكره به التاريخ أكثر من أي قرار آخر ، كما يحتسبه عند الله كمن حرر آلاف بل ملايين العبيد .
ثانيا ً : أوجد هذا النظام فئة من المواطنين لا عمل لها تجيده سوى تحصيل نسبة من دخول الأجانب ، و هو عمل يشبه نشاط البلطجية أو الفتوات الغير شرعيين . الذين يستحلون استقطاع أموال يشقى الآخرون لتحصيلها . هذه الفئة المتزايدة يوما ً بعد يوم تضر نفسها قبل الآخرين ، و تعتبر عقبة كأداء في سبيل تقدم المملكة .. فكيف يأتي اليوم الذي تعتمد فيه دولة على أناس لا يجيدون عمل أي شيء ، بل و يعتبرون العمل نقيصة ينفونها عن أنفسهم ، فإذا غادر العاملون الأجانب إلى بلادهم ؛ تصبح قاعدة العمالة – الأساس الذي تبنى فوقه كل الأنشطة الأخرى ، الاقتصادية و الحضارية – تصبح هذه القاعدة خاوية ؛ فينهار - لا قدر الله – البناء كله .
تذكرني هذه الفكرة بمرحلة تأميم قناة السويس في مصر ، و التي كانت مرحلة فارقة في تاريخ مصر الحديث . نراها الآن في ما تجلت به من ثورية مدروسة غير عشوائية القرار ، و نتساءل : أي مأزق كانت حكومة الثورة المصرية لتضع نفسها فيه لو لم تستطع استبدال مرشدي القناة و العاملين فيها – و كانوا أغلبهم من الأجانب – بطاقم عمل مصري ذي كفاءة شهدت بها الأيام .
هنا ، أعود فأعلن قلقي على مستقبل هذا البلد العربي الإسلامي الآخذ في النمو السريع ، من تزايد فئة المواطنين السعوديين غير ذوي المهارات هؤلاء ، و الذين تردهم أموال كثيرة تجعلهم يعيشون في رفاهية غير أصيلة لا شك تزول إذا غادرهم الأجانب و تركوهم لا يستطيعون صيد سمكة بينما كروشهم خاوية .. هذه الفئة لا يشكلها فقط مجموعة الكفلاء و أصحاب مكاتب الإستقدام ، بل نشأت جماعات أخرى تتاجر بأسمائها و انتمائها لهذا البلد .. و كي يصبح قصدي مفهوما ً يجب على القارئ أن يفكر في تواجد الكثير من الأجانب يعيشون في مختلف مدن المملكة و قراها منذ ما يزيد عن العشرين أو الثلاثين عاما ً ؛ و طبعا بعد هذه السنين و الشقاء و الغربة التي تجعل المرء ينفصل بشكل كبير عن الحياة في بلده الأم و أكثر ذكرياته في هذا البلد الذي لا يمنح جنسيته للكثيرين ، بعد كل هذا يفكر أن يؤسس لنفسه مشروعا ً تجاريا ً أو ما إلى ذلك ؛ و هنا تواجهه مشكلة كونه لازال عبر عقوده التي قضاها هنا يحمل لقب وافد ، أما الحل فهو غير بعيد و يكمن في استعارة اسم مواطن سعودي ليس له في هذا المشروع ناقة أو جمل ، فهو لا يدفع أي شيء للتأسيس ، و لا يشارك بالعمل أو ما شابه .. فقط الاسم .. و في المقابل يتلقى مبلغا ً سنويا ًدون أي تعب أو مخاطرة .
في نفس هذا السياق لفتت نظري شكوى من أحد المواطنين السعوديين في صحيفة محلية ، و هو واحد من هذه الفئة التي تؤجر اسمها لصاحب تجارة للمواد الغذائية مقابل حوالي مائة ألف ريال سنويا ً ، و هو يشكو لاعتباره أن المقيم صاحب التجارة يقوم بالنصب عليه و يخدعه ، و يذكر كم يربح هذا المقيم من تجارته و كم يصرف على العاملين و الإيجارات و الضرائب و ما إلى ذلك .. و بحسبة بسيطة تدرك إن للمواطن هذا نصيب الأسد دون أن يكلف نفسه أي مجهود أو مخاطرة يواجهها التجار عادة من خسارة إلى مكسب ، ومع ذلك يشعر بالحنق و يغبط المقيم .
إذا ؛ أوليس أولى بمثل هذا الرجل أن يتقدم ببدء مشروع يخصه ، إن ربح يكون له الربح ، فإن خسر تقوي الخسارة ظهره و تعلمه ليصبح قادرا ً على العمل الحقيقي و ليس انتظار ما يحصله دون وجه حق .. ثم يغبط الآخرين .
هنا ، لا بد من الإشارة لسائق ليموزين شاب ، لفت نظري بلهجته المحلية و الزى الذي يرتديه المواطنون هنا، حتى إنني سارعت بسؤاله عن جنسيته فأخبرني إنه فعلا ً سعودي ، و إن ثمة شباب كثير أصبح يعمل على سيارات الأجرة هذه . ثم حدثني عن مشكلة أخرى ؛ فقال إنه كشاب سعودي جمع ثمن هذه السيارة بصعوبة ؛ فهي سيارته و ليست كأي ليموزين أخرى تملكها شركة و تؤجرها بمائة و خمسين ريالا ً في اليوم لهؤلاء السائقين الأجانب الذين يكدون طوال اليوم و أحيانا ً يتبادل أكثر من سائق العمل على السيارة حتى يخرجوا بمكسب ما .. هذه الشركات المملوكة لسعوديين لا يهمهم أمر مواطنيهم ؛ فهم يكسبون أكثر من الوافدين الذين يستقدمونهم من دول شرق آسيا و يقبلون بدخول ضعيفة جدا ً لا يستطيع المواطن السعودي العيش بها ؛ فيخرج سريعا ً من دائرة المنافسة .
إذا ً ، فالسائقون السعوديون يحاربون هذه الشركات التي تدفع إلى سوق العمل بآلاف المنافسين لهم ، هؤلاء المنافسون بدورهم يحسون بظلم كبير واقع عليهم ؛ فهم تقتطع أجورهم الضعيفة أصلا ً ، و إن كانت هذه الأجور لا تصلح لعيش المواطن السعودي ؛ فهي بالتبعية لا تصلح لأي إنسان آخر و لكنهم يصبرون لأن لا خيار آخر لديهم ، فهم غرباء و حتى جوازات سفرهم لا يسمح لهم بحملها فيتقيدون برغبات الكفلاء الذين غالبا ً ما يستغلونهم و حتى لا يسمحون لهم بالمغادرة بسهولة ، فأحيانا ً يطلب بعض الكفلاء نقودا ً للسماح للأجنبي بالعودة لبلده ، فكأن الأجنبي هنا عبدٌ يشتري حريته كما كان يحدث في أيام الجاهلية .. أما شركات الليموزين هذه فيبدو إنها من القوة بحيث لا يستطيع أحد مجابهتها لا المواطن ولا الوافد .
على أي حال يبقى وجه مضيء تراه في سائقي الليموزين من الشباب السعودي ، فإلى حد ما تغيرت ثقافتهم بحيث يقبلون بالعمل و لا يجدون حرجا ً في أداء أي عمل شريف أيا ً ما كان شاقا ً و بسيطا ً ، و ذلك وجه رائع ؛ فالثقافات لا تتغير بسهولة ، بل تحتاج سنين طويلة و جهدا ً عظيما ً من أولي الأمر ، لأنها ببساطة وضع الأسس ، القاعدة ، التي يجب أن تكون قوية ليقوم عليها البناء شامخا ً .
ديدالوم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق