بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، يونيو 11، 2010

العبور إلى ثقافات قصية من الرياض عبر ليموزين


في أي من شوارع الرياض – عاصمة المملكة العربية السعودية - يعتبر استقلالك التاكسي أو سيارة الأجرة التي يسمونها هنا ليموزين مرحلة انتقالية تأخــذك إلى الحالة الهندوباكستانية – إذا جاز التعبير اختصارا ً لانتماءات متعددة لكنها في النهاية و رغم الاختلاف تجيء من شبه القارة الهندية أو الجزر و الدول القريبة منها ، يعني الهند ، باكستان ، أفغانستان ، بنجلاديش ، نيبال ، و ما إليها .
أما وصولك التام إلى هذه الثقافة أو الثقافات المختلفة بشكل كبير عن ثقافة المواطنين السعوديين فيبدأ عندما تبتسم لسائق التاكسي و تقول له : بطها . و طبعا هذه الكلمة تعني منطقة البطحاء التي يوجد بها سوق كبير للمنتجات الرخيصة المتنوعة . يكتظ بالناس لاسيما يومي الخميس و الجمعة ، و خاصة الجمعة ، حتى إن بعض الناس يطلقون عليه سوق الجمعة . في هذا السوق لن تشاهد سعوديا ً واحدا ً أو حتى عربيا إلا فيما ندر .. أيضا ً لن تتحدث العربية أو أية لغة أخرى معروفة ، بل ستلجأ إلى لغة وسط خليط من عربية مفككة و انجليزية ركيكة و بعض كلمات أوردية أو من لغات وسط آسيا و الهند ثم كلمات أخرى مجهولة الأصل تسأل عنها الهنود فيخبروك إنها عربية لتظنها مأخوذة عن بعض لهجات القبائل العربية في المملكة ، لكنك إذ تسأل السعوديين يقولون مخمنين : لا بد إنها أوردية ، ثم يأتيك من يقول : إنها – دون شك كلمات تركية .
في البدء .. كان التليفزيون ، و كان تقرير شاهدته على محطة التليفزيون السعودي الأولى عن سوق الجمعة في منطقة البطحاء ، و أدهشني فيه ذلك التشابه الواضح بينه و سوق العتبة في مصر .. تطابق مذهل تأكد تماما ً عندما عاينته بنفسي حتى إنني لاحظت بناية تصورتها المسرح القومي العريق الموجود في العتبة الخضراء .. لوهلة حينها اندفعت نحوه و أنا أرى كوبري علوي يماثل نظيره في مصر ، و تخيلت إنني سأجد إلى جواره موقف الأتوبيس و سور الأزبكية حيث الكتب القديمة القيمة تباع بأسعار في المتناول للجميع ، و طبعا محطة مترو الأنفاق .. كل ذلك عبر بخاطري لحظة ؛ ثم أفقت لأجد نفسي في قلب مدينة الرياض .
عندما شاهدت التقرير التليفزيوني أعجبني شيء أساس ، ألا و هو وجود الناس .. ياه بشر ؟! أخيراً !! خاطبت نفسي و قررت الذهاب إلى هذا السوق ؛ فحتى ذلك الوقت ما كنت رأيت أناساً يمشون في الشوارع إلا فيما ندر ، الأمر الذي يضيق له صدرك و يجعلك تحس كونك في زنزانة كئيبة حتى مع كل فخامة البنايات و سيارات الرفاهية تمرق إلى جوارك دون أن تدع لك فرصة لرؤية عيون الناس كي تشعر أن ثمة أرواحا ً حقيقية و نفوسا ً حية إلى جوارك تؤنس وحدتك .
المهم ، الطريق طبعا ً يبدأ كما ينتهي بليموزين أو تاكسي كما يطلق عليه بشكل عالمي ، و معظم سائقي التاكسي باكستانيون ، إلا إنك ستقابل بعض الجنسيات الأخرى ؛ فإذا صادفك سائق هندي و أخبرته إنه أول هندي تقابله ، سيبادرك بتنهده و قوله : الحين كله باكستاني ما يفهم شي .
طبعا ً ستلاحظ إنه أكثر أناقة و اعتدادا ً بنفسه من السائقين الآخرين ، و السبب سيسوقه هو إليك دون أن تسأل ؛ حيث يخبرك عن الأيام الخوالي حين كان في الرياض أعداد كبيرة من الأجانب ، أوروبيون و أمريكيون ، هؤلاء كانوا يدفعون بسخاء ، و أبداً لا يجادلون في قيمة التوصيل حيث ينظر أحدهم إلى العداد فيعطيك ما يسجله و يزيد بقشيشا ً أو يترك الباقي و يشكرك قبل أن يغادر ؛ حينها كنت ترى كثيرا ً من الهنود الذين يعرفون العربية و الانجليزية ؛ فهم متعلمون ، أما الآن فالسائقون يأتون من باكستان و بنجلاديش و نيبال لا يعرفون شيئا ً و بصعوبة يفهمون ما يقوله الراكب .
أما السائقون الباكستانيون و غيرهم فلا يضرهم أو يشغلهم السائق الهندي ، لكنهم ينقمون على المواطنين السعوديين و بالأخص كفلائهم ( جمع كفيل ) فبسبب هذه الفئة لن تجد أجنبيا ً واحدا ً يعمل هنا و لا ينوي العودة إلى بلده في أقرب فرصة ، و يخبرني سائق باكستاني كبير السن فيقول :
- هنا ظلم كبير .. كفيل هذا ظلم .. ما في إسلام ظلم .
طبعا ً أنا نفسي لا أستطيع فهم نظام الكفيل المعمول به هنا ، أو لماذا أوجد ، و ما الفائدة منه . بل أظنه عقبة في سبيل المملكة يحد تطورها أكثر من كونه مسيئا ً للأجانب .
أولا: يشوه وجود هذا النظام صورة المملكة أمام العالم ؛ فرغم إنها دولة تعلن تطبيق شرع الله و تعلي راية الإسلام ، يأتي نظام الكفيل بقعة سوداء في الثوب الأبيض ، حيث أعتبر عالميا ً واحدا ً من أواخر أشكال العبودية القائمة في العالم الحديث ؛ فيقارن في ذلك بأنشطة سيئة السمعة كالاتجار بالأطفال أو سرقة الأعضاء البشرية أو الدعارة ، و ما شابه ذلك .
و هنا أعلن سعادتي بما سمعت من سعي خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز ، حفظه الله ، من إلغاء هذا النظام و البحث عن بديل عملي أكثر حرصا ً على إقرار مبادئ حقوق الإنسان التي كفلها الإسلام قبل المنظمات الدولية المعاصرة . و ذلك أمر لو تم سيذكره به التاريخ أكثر من أي قرار آخر ، كما يحتسبه عند الله كمن حرر آلاف بل ملايين العبيد .
ثانيا ً : أوجد هذا النظام فئة من المواطنين لا عمل لها تجيده سوى تحصيل نسبة من دخول الأجانب ، و هو عمل يشبه نشاط البلطجية أو الفتوات الغير شرعيين . الذين يستحلون استقطاع أموال يشقى الآخرون لتحصيلها . هذه الفئة المتزايدة يوما ً بعد يوم تضر نفسها قبل الآخرين ، و تعتبر عقبة كأداء في سبيل تقدم المملكة .. فكيف يأتي اليوم الذي تعتمد فيه دولة على أناس لا يجيدون عمل أي شيء ، بل و يعتبرون العمل نقيصة ينفونها عن أنفسهم ، فإذا غادر العاملون الأجانب إلى بلادهم ؛ تصبح قاعدة العمالة – الأساس الذي تبنى فوقه كل الأنشطة الأخرى ، الاقتصادية و الحضارية – تصبح هذه القاعدة خاوية ؛ فينهار - لا قدر الله – البناء كله .
تذكرني هذه الفكرة بمرحلة تأميم قناة السويس في مصر ، و التي كانت مرحلة فارقة في تاريخ مصر الحديث . نراها الآن في ما تجلت به من ثورية مدروسة غير عشوائية القرار ، و نتساءل : أي مأزق كانت حكومة الثورة المصرية لتضع نفسها فيه لو لم تستطع استبدال مرشدي القناة و العاملين فيها – و كانوا أغلبهم من الأجانب – بطاقم عمل مصري ذي كفاءة شهدت بها الأيام .
هنا ، أعود فأعلن قلقي على مستقبل هذا البلد العربي الإسلامي الآخذ في النمو السريع ، من تزايد فئة المواطنين السعوديين غير ذوي المهارات هؤلاء ، و الذين تردهم أموال كثيرة تجعلهم يعيشون في رفاهية غير أصيلة لا شك تزول إذا غادرهم الأجانب و تركوهم لا يستطيعون صيد سمكة بينما كروشهم خاوية .. هذه الفئة لا يشكلها فقط مجموعة الكفلاء و أصحاب مكاتب الإستقدام ، بل نشأت جماعات أخرى تتاجر بأسمائها و انتمائها لهذا البلد .. و كي يصبح قصدي مفهوما ً يجب على القارئ أن يفكر في تواجد الكثير من الأجانب يعيشون في مختلف مدن المملكة و قراها منذ ما يزيد عن العشرين أو الثلاثين عاما ً ؛ و طبعا بعد هذه السنين و الشقاء و الغربة التي تجعل المرء ينفصل بشكل كبير عن الحياة في بلده الأم و أكثر ذكرياته في هذا البلد الذي لا يمنح جنسيته للكثيرين ، بعد كل هذا يفكر أن يؤسس لنفسه مشروعا ً تجاريا ً أو ما إلى ذلك ؛ و هنا تواجهه مشكلة كونه لازال عبر عقوده التي قضاها هنا يحمل لقب وافد ، أما الحل فهو غير بعيد و يكمن في استعارة اسم مواطن سعودي ليس له في هذا المشروع ناقة أو جمل ، فهو لا يدفع أي شيء للتأسيس ، و لا يشارك بالعمل أو ما شابه .. فقط الاسم .. و في المقابل يتلقى مبلغا ً سنويا ًدون أي تعب أو مخاطرة .
في نفس هذا السياق لفتت نظري شكوى من أحد المواطنين السعوديين في صحيفة محلية ، و هو واحد من هذه الفئة التي تؤجر اسمها لصاحب تجارة للمواد الغذائية مقابل حوالي مائة ألف ريال سنويا ً ، و هو يشكو لاعتباره أن المقيم صاحب التجارة يقوم بالنصب عليه و يخدعه ، و يذكر كم يربح هذا المقيم من تجارته و كم يصرف على العاملين و الإيجارات و الضرائب و ما إلى ذلك .. و بحسبة بسيطة تدرك إن للمواطن هذا نصيب الأسد دون أن يكلف نفسه أي مجهود أو مخاطرة يواجهها التجار عادة من خسارة إلى مكسب ، ومع ذلك يشعر بالحنق و يغبط المقيم .
إذا ؛ أوليس أولى بمثل هذا الرجل أن يتقدم ببدء مشروع يخصه ، إن ربح يكون له الربح ، فإن خسر تقوي الخسارة ظهره و تعلمه ليصبح قادرا ً على العمل الحقيقي و ليس انتظار ما يحصله دون وجه حق .. ثم يغبط الآخرين .
هنا ، لا بد من الإشارة لسائق ليموزين شاب ، لفت نظري بلهجته المحلية و الزى الذي يرتديه المواطنون هنا، حتى إنني سارعت بسؤاله عن جنسيته فأخبرني إنه فعلا ً سعودي ، و إن ثمة شباب كثير أصبح يعمل على سيارات الأجرة هذه . ثم حدثني عن مشكلة أخرى ؛ فقال إنه كشاب سعودي جمع ثمن هذه السيارة بصعوبة ؛ فهي سيارته و ليست كأي ليموزين أخرى تملكها شركة و تؤجرها بمائة و خمسين ريالا ً في اليوم لهؤلاء السائقين الأجانب الذين يكدون طوال اليوم و أحيانا ً يتبادل أكثر من سائق العمل على السيارة حتى يخرجوا بمكسب ما .. هذه الشركات المملوكة لسعوديين لا يهمهم أمر مواطنيهم ؛ فهم يكسبون أكثر من الوافدين الذين يستقدمونهم من دول شرق آسيا و يقبلون بدخول ضعيفة جدا ً لا يستطيع المواطن السعودي العيش بها ؛ فيخرج سريعا ً من دائرة المنافسة .
إذا ً ، فالسائقون السعوديون يحاربون هذه الشركات التي تدفع إلى سوق العمل بآلاف المنافسين لهم ، هؤلاء المنافسون بدورهم يحسون بظلم كبير واقع عليهم ؛ فهم تقتطع أجورهم الضعيفة أصلا ً ، و إن كانت هذه الأجور لا تصلح لعيش المواطن السعودي ؛ فهي بالتبعية لا تصلح لأي إنسان آخر و لكنهم يصبرون لأن لا خيار آخر لديهم ، فهم غرباء و حتى جوازات سفرهم لا يسمح لهم بحملها فيتقيدون برغبات الكفلاء الذين غالبا ً ما يستغلونهم و حتى لا يسمحون لهم بالمغادرة بسهولة ، فأحيانا ً يطلب بعض الكفلاء نقودا ً للسماح للأجنبي بالعودة لبلده ، فكأن الأجنبي هنا عبدٌ يشتري حريته كما كان يحدث في أيام الجاهلية .. أما شركات الليموزين هذه فيبدو إنها من القوة بحيث لا يستطيع أحد مجابهتها لا المواطن ولا الوافد .
على أي حال يبقى وجه مضيء تراه في سائقي الليموزين من الشباب السعودي ، فإلى حد ما تغيرت ثقافتهم بحيث يقبلون بالعمل و لا يجدون حرجا ً في أداء أي عمل شريف أيا ً ما كان شاقا ً و بسيطا ً ، و ذلك وجه رائع ؛ فالثقافات لا تتغير بسهولة ، بل تحتاج سنين طويلة و جهدا ً عظيما ً من أولي الأمر ، لأنها ببساطة وضع الأسس ، القاعدة ، التي يجب أن تكون قوية ليقوم عليها البناء شامخا ً .


ديدالوم

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

إعلانات مدمجة

مشاركة مميزة

في بيروت: مبادرة من تيرو للفنون ومسرح اسطنبولي لإعادة تأهيل سينما الكوليزيه التاريخية بعد عقود من الإغلاق

  بعد تجربة إعادة تأهيل وإفتتاح دور السينما المقفلة في جنوب وشمال لبنان وتحويلها الى مساحات ثقافية مستقلة ومجانية، بدأت "جمعية تيرو لل...

سيعجبك أيضاً إن شاء الله