هذه الأيام ككل عام وفد الصعايدة و غيرهم إلى مدينة قنا .
مدينة قنا التي لم يعد أحد يسخر عند سماع اسمها و يردد ضاحكاً : " قنا عذاب النار " .
في الماضي كانت قطعة من العذاب يُنفى إليها كل معاقب و كل مغضوب عليه من الموظفين الحكوميين في أقاليم مصر المختلفة . يرسل عبر مسافات بعيدة و لساعات طويلة يشهد من خلال نافذة قطار متهالك يسير بمحاذاة النيل زيادة الحرارة درجة درجة و ارتفاع معدل الفقر من قرية إلى أخرى حتى يصل مقره الأخير حيث يقضي مدة تطول أو تقصر إلى أن يجد منفذاً ما يرتد خلاله إلى الشمال ليحكي لأهله و أبنائه أنه كان في قنا ، و قنا عذاب النار .
لم تعد المدينة عذاباً فقد ازينت شوارعها و أصبحت أكثر تحضراً و نظافة حتى أصبح من يأتي لزيارتها من الشمال يغبط أهلها على ما صارت إليه ، و لعلك تجد كثيراً من أبنائها الذين هاجروا شرقاً و غرباً يتمنون العودة إليها فهي جديرة بجذب الناس بعد أن ظلت عشرات السنين طاردة للسكان .
شيءٌ وحيد ظل مع تقلب أحوال الدهر جاذباً للمحبين من كل صوب و درب هو مقام القناوي سيدي عبد الرحيم الذي يحتفل أبناء قنا و معهم كثير من المصريين بمولده كل عام فيحتفون في ذكرى مولده بذكر الله يلتقون على حبه و لا يخلو الأمر من تجارة و لهو يجر الأطفال و أهلهم للترويح عن النفس في ساحة تحيط بالمسجد و تغص بالضيوف .
القناوي الذي ارتبط ذكره بالمدينة لن تجد من يلتفت كثيرا إلى أنه هاجر إليها من سبتة المغربية ، و سيرته التي تتحدث عن أسفاره تثير في النفس رغبة المقارنة بين عصره و حاضرنا ، نحن أبناء عصر العولمة و حقوق الإنسان لا يستطيع واحد منا مغادرة بلده و الإقامة في أي بلد آخر إلا بتأشيرات و تصاريح ، بل إن بعض البلدان تمنع عن بعض قاطنيها الحق في استخراج هذه التصاريح مثلما حدث في المغرب - التي أتى منها القناوي قبل قرون - عندما سُحبت جوازات السفر من بعض النشطاء الصحراويين فقط لأنهم يعارضون السلطة ، كان السيد عبد الرحيم قادراً على السفر و التنقل لمجرد رغبته في ذلك لأنه هو من يقرر مصيره ، و دون حاجة إلى وثيقة العهد الدولي لحقوق الإنسان التي استحدثت في العصر الحديث و التي تذكر في بنديها الثاني عشر و الثالث عشر أصالة حق الإنسان في التنقل داخل أي بلد يقيم فيه و مغادرة أي بلد بما في ذلك بلده .
استطاع عبد الرحيم التنقل بين البلاد فدرس علوم الدين مدة سنتين بدمشق و درَّس في أحد المساجد ببلده الأم كما أقام سنين بين مكة المكرمة و المدينة المنورة قبل أن يهاجر و يتاجر في قوص بصعيد مصر ثم ينتهي به المقام في مدينة قنا التي بقي يدرس علوم الدين فيها و يتاجر بين تجارها .
في كل هذه الأسفار و الإقامات في البلدان المختلفة لم يجد القناوي من يرفضه و يحنق لوجوده و يعتبره أجنبياً . كانت بلاد الله بلاده و كل الناس أهلاً له حتى إنه عين في وقت ما حاكماً على قنا زمن الأيوبيين دون أن يرى أحد من أهل البلد غضاضة في ذلك ، لقد كان عصره عصر إكرام للغرباء و استضافتهم و احتوائهم .
أما في عصرنا هذا فيكفي أن تعبر الحدود بين بلدين متلاصقتين يعيش فيهما شعبان ذوا أصل واحد لتتحول إلى شخص لا حقوق له . انظر مثلاً إلى حال مهاجرين عرب في بلاد مثل دول الخليج التي يتحول الشخص بدخوله إليها إلى فاقد للأهلية يتعامل من خلال كفيل يتحكم في كل تفاصيل حياة المكفول و يبتزه لقاء كل خدمة يؤديها له و كثيراً ما يمنعه من العودة إلى بلده إلا بدفع مقابل مادي و هو ما يجعل الأجانب في هذه البلاد لا يفكرون في تنميتها أو مساعدة أهلها للنهوض بها فهم يعرفون إن كل ما يبذلونه لن يقابل في النهاية إلا بنكران . مهما عاشوا سنين طويلة في هذه البلاد و خدموها لن يحصلوا على جنسيتها أو اعتراف بحقوقهم المدنية فيها و بالتالي فإقامتهم كما يقال : " ديتها فلوس " يقدمون عملاً روتينياً لجمع مزيد من المال حتى يغادروا البلد في أقرب فرصة . إنهم يعتبرون إقامتهم في هذه البلاد وقتاً مستقطعاً من حيواتهم أما الحياة الحقيقية فتبدأ عند عودتهم إلى أوطانهم . و في النهاية كل الأطراف خاسر .
قارن ذلك بحياة القناوي الذي جاء فعمرَّ و خدم أهل البلد حتى أحبوه و قدموه عليهم و ظلوا حافظين لذكره حتى بعد أن توفاه الله بقرون عديدة .
هل كان ذلك ليكون لو ظل الرجل ملاحقاً بإحساس الغريب ؟
رحم الله السيد عبد الرحيم القنائي .
و رحم تلك الأيام التي كان فيها الإنسان حراً و الإنسانية وطناً يستظل بفيئها الجميع .
مدينة قنا التي لم يعد أحد يسخر عند سماع اسمها و يردد ضاحكاً : " قنا عذاب النار " .
في الماضي كانت قطعة من العذاب يُنفى إليها كل معاقب و كل مغضوب عليه من الموظفين الحكوميين في أقاليم مصر المختلفة . يرسل عبر مسافات بعيدة و لساعات طويلة يشهد من خلال نافذة قطار متهالك يسير بمحاذاة النيل زيادة الحرارة درجة درجة و ارتفاع معدل الفقر من قرية إلى أخرى حتى يصل مقره الأخير حيث يقضي مدة تطول أو تقصر إلى أن يجد منفذاً ما يرتد خلاله إلى الشمال ليحكي لأهله و أبنائه أنه كان في قنا ، و قنا عذاب النار .
لم تعد المدينة عذاباً فقد ازينت شوارعها و أصبحت أكثر تحضراً و نظافة حتى أصبح من يأتي لزيارتها من الشمال يغبط أهلها على ما صارت إليه ، و لعلك تجد كثيراً من أبنائها الذين هاجروا شرقاً و غرباً يتمنون العودة إليها فهي جديرة بجذب الناس بعد أن ظلت عشرات السنين طاردة للسكان .
شيءٌ وحيد ظل مع تقلب أحوال الدهر جاذباً للمحبين من كل صوب و درب هو مقام القناوي سيدي عبد الرحيم الذي يحتفل أبناء قنا و معهم كثير من المصريين بمولده كل عام فيحتفون في ذكرى مولده بذكر الله يلتقون على حبه و لا يخلو الأمر من تجارة و لهو يجر الأطفال و أهلهم للترويح عن النفس في ساحة تحيط بالمسجد و تغص بالضيوف .
القناوي الذي ارتبط ذكره بالمدينة لن تجد من يلتفت كثيرا إلى أنه هاجر إليها من سبتة المغربية ، و سيرته التي تتحدث عن أسفاره تثير في النفس رغبة المقارنة بين عصره و حاضرنا ، نحن أبناء عصر العولمة و حقوق الإنسان لا يستطيع واحد منا مغادرة بلده و الإقامة في أي بلد آخر إلا بتأشيرات و تصاريح ، بل إن بعض البلدان تمنع عن بعض قاطنيها الحق في استخراج هذه التصاريح مثلما حدث في المغرب - التي أتى منها القناوي قبل قرون - عندما سُحبت جوازات السفر من بعض النشطاء الصحراويين فقط لأنهم يعارضون السلطة ، كان السيد عبد الرحيم قادراً على السفر و التنقل لمجرد رغبته في ذلك لأنه هو من يقرر مصيره ، و دون حاجة إلى وثيقة العهد الدولي لحقوق الإنسان التي استحدثت في العصر الحديث و التي تذكر في بنديها الثاني عشر و الثالث عشر أصالة حق الإنسان في التنقل داخل أي بلد يقيم فيه و مغادرة أي بلد بما في ذلك بلده .
استطاع عبد الرحيم التنقل بين البلاد فدرس علوم الدين مدة سنتين بدمشق و درَّس في أحد المساجد ببلده الأم كما أقام سنين بين مكة المكرمة و المدينة المنورة قبل أن يهاجر و يتاجر في قوص بصعيد مصر ثم ينتهي به المقام في مدينة قنا التي بقي يدرس علوم الدين فيها و يتاجر بين تجارها .
في كل هذه الأسفار و الإقامات في البلدان المختلفة لم يجد القناوي من يرفضه و يحنق لوجوده و يعتبره أجنبياً . كانت بلاد الله بلاده و كل الناس أهلاً له حتى إنه عين في وقت ما حاكماً على قنا زمن الأيوبيين دون أن يرى أحد من أهل البلد غضاضة في ذلك ، لقد كان عصره عصر إكرام للغرباء و استضافتهم و احتوائهم .
أما في عصرنا هذا فيكفي أن تعبر الحدود بين بلدين متلاصقتين يعيش فيهما شعبان ذوا أصل واحد لتتحول إلى شخص لا حقوق له . انظر مثلاً إلى حال مهاجرين عرب في بلاد مثل دول الخليج التي يتحول الشخص بدخوله إليها إلى فاقد للأهلية يتعامل من خلال كفيل يتحكم في كل تفاصيل حياة المكفول و يبتزه لقاء كل خدمة يؤديها له و كثيراً ما يمنعه من العودة إلى بلده إلا بدفع مقابل مادي و هو ما يجعل الأجانب في هذه البلاد لا يفكرون في تنميتها أو مساعدة أهلها للنهوض بها فهم يعرفون إن كل ما يبذلونه لن يقابل في النهاية إلا بنكران . مهما عاشوا سنين طويلة في هذه البلاد و خدموها لن يحصلوا على جنسيتها أو اعتراف بحقوقهم المدنية فيها و بالتالي فإقامتهم كما يقال : " ديتها فلوس " يقدمون عملاً روتينياً لجمع مزيد من المال حتى يغادروا البلد في أقرب فرصة . إنهم يعتبرون إقامتهم في هذه البلاد وقتاً مستقطعاً من حيواتهم أما الحياة الحقيقية فتبدأ عند عودتهم إلى أوطانهم . و في النهاية كل الأطراف خاسر .
قارن ذلك بحياة القناوي الذي جاء فعمرَّ و خدم أهل البلد حتى أحبوه و قدموه عليهم و ظلوا حافظين لذكره حتى بعد أن توفاه الله بقرون عديدة .
هل كان ذلك ليكون لو ظل الرجل ملاحقاً بإحساس الغريب ؟
رحم الله السيد عبد الرحيم القنائي .
و رحم تلك الأيام التي كان فيها الإنسان حراً و الإنسانية وطناً يستظل بفيئها الجميع .
السلام عليكم نفسي ازور قنا وانا اصلي من قنا
ردحذفThis post will help the internet visitors for building up new website or
ردحذفeven a blog from start to end.
Feel free to surf to my webpage - GFI Norte
Also see my website :: GFI Norte