بحث هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، يوليو 29، 2010

سيدي عبد الرحيم القناوي .. شاهد على عصر الإنسان

هذه الأيام ككل عام وفد الصعايدة و غيرهم إلى مدينة قنا .
مدينة قنا التي لم يعد أحد يسخر عند سماع اسمها و يردد ضاحكاً : " قنا عذاب النار " .
في الماضي كانت قطعة من العذاب يُنفى إليها كل معاقب و كل مغضوب عليه من الموظفين الحكوميين في أقاليم مصر المختلفة . يرسل عبر مسافات بعيدة و لساعات طويلة يشهد من خلال نافذة قطار متهالك يسير بمحاذاة النيل زيادة الحرارة درجة درجة و ارتفاع معدل الفقر من قرية إلى أخرى حتى يصل مقره الأخير حيث يقضي مدة تطول أو تقصر إلى أن يجد منفذاً ما يرتد خلاله إلى الشمال ليحكي لأهله و أبنائه أنه كان في قنا ، و قنا عذاب النار .
لم تعد المدينة عذاباً فقد ازينت شوارعها و أصبحت أكثر تحضراً و نظافة حتى أصبح من يأتي لزيارتها من الشمال يغبط أهلها على ما صارت إليه ، و لعلك تجد كثيراً من أبنائها الذين هاجروا شرقاً و غرباً يتمنون العودة إليها فهي جديرة بجذب الناس بعد أن ظلت عشرات السنين طاردة للسكان .
شيءٌ وحيد ظل مع تقلب أحوال الدهر جاذباً للمحبين من كل صوب و درب هو مقام القناوي سيدي عبد الرحيم الذي يحتفل أبناء قنا و معهم كثير من المصريين بمولده كل عام فيحتفون في ذكرى مولده بذكر الله يلتقون على حبه و لا يخلو الأمر من تجارة و لهو يجر الأطفال و أهلهم للترويح عن النفس في ساحة تحيط بالمسجد و تغص بالضيوف .
القناوي الذي ارتبط ذكره بالمدينة لن تجد من يلتفت كثيرا إلى أنه هاجر إليها من سبتة المغربية ، و سيرته التي تتحدث عن أسفاره تثير في النفس رغبة المقارنة بين عصره و حاضرنا ، نحن أبناء عصر العولمة و حقوق الإنسان لا يستطيع واحد منا مغادرة بلده و الإقامة في أي بلد آخر إلا بتأشيرات و تصاريح ، بل إن بعض البلدان تمنع عن بعض قاطنيها الحق في استخراج هذه التصاريح مثلما حدث في المغرب - التي أتى منها القناوي قبل قرون - عندما سُحبت جوازات السفر من بعض النشطاء الصحراويين فقط لأنهم يعارضون السلطة ، كان السيد عبد الرحيم قادراً على السفر و التنقل لمجرد رغبته في ذلك لأنه هو من يقرر مصيره ، و دون حاجة إلى وثيقة العهد الدولي لحقوق الإنسان التي استحدثت في العصر الحديث و التي تذكر في بنديها الثاني عشر و الثالث عشر أصالة حق الإنسان في التنقل داخل أي بلد يقيم فيه و مغادرة أي بلد بما في ذلك بلده .
استطاع عبد الرحيم التنقل بين البلاد فدرس علوم الدين مدة سنتين بدمشق و درَّس في أحد المساجد ببلده الأم كما أقام سنين بين مكة المكرمة و المدينة المنورة قبل أن يهاجر و يتاجر في قوص بصعيد مصر ثم ينتهي به المقام في مدينة قنا التي بقي يدرس علوم الدين فيها و يتاجر بين تجارها .
في كل هذه الأسفار و الإقامات في البلدان المختلفة لم يجد القناوي من يرفضه و يحنق لوجوده و يعتبره أجنبياً . كانت بلاد الله بلاده و كل الناس أهلاً له حتى إنه عين في وقت ما حاكماً على قنا زمن الأيوبيين دون أن يرى أحد من أهل البلد غضاضة في ذلك ، لقد كان عصره عصر إكرام للغرباء و استضافتهم و احتوائهم .
أما في عصرنا هذا فيكفي أن تعبر الحدود بين بلدين متلاصقتين يعيش فيهما شعبان ذوا أصل واحد لتتحول إلى شخص لا حقوق له . انظر مثلاً إلى حال مهاجرين عرب في بلاد مثل دول الخليج التي يتحول الشخص بدخوله إليها إلى فاقد للأهلية يتعامل من خلال كفيل يتحكم في كل تفاصيل حياة المكفول و يبتزه لقاء كل خدمة يؤديها له و كثيراً ما يمنعه من العودة إلى بلده إلا بدفع مقابل مادي و هو ما يجعل الأجانب في هذه البلاد لا يفكرون في تنميتها أو مساعدة أهلها للنهوض بها فهم يعرفون إن كل ما يبذلونه لن يقابل في النهاية إلا بنكران . مهما عاشوا سنين طويلة في هذه البلاد و خدموها لن يحصلوا على جنسيتها أو اعتراف بحقوقهم المدنية فيها و بالتالي فإقامتهم كما يقال : " ديتها فلوس " يقدمون عملاً روتينياً لجمع مزيد من المال حتى يغادروا البلد في أقرب فرصة . إنهم يعتبرون إقامتهم في هذه البلاد وقتاً مستقطعاً من حيواتهم أما الحياة الحقيقية فتبدأ عند عودتهم إلى أوطانهم . و في النهاية كل الأطراف خاسر .
قارن ذلك بحياة القناوي الذي جاء فعمرَّ و خدم أهل البلد حتى أحبوه و قدموه عليهم و ظلوا حافظين لذكره حتى بعد أن توفاه الله بقرون عديدة .
هل كان ذلك ليكون لو ظل الرجل ملاحقاً بإحساس الغريب ؟
رحم الله السيد عبد الرحيم القنائي .
و رحم تلك الأيام التي كان فيها الإنسان حراً و الإنسانية وطناً يستظل بفيئها الجميع .



هناك تعليقان (2):

  1. السلام عليكم نفسي ازور قنا وانا اصلي من قنا

    ردحذف
  2. This post will help the internet visitors for building up new website or
    even a blog from start to end.

    Feel free to surf to my webpage - GFI Norte
    Also see my website :: GFI Norte

    ردحذف

إعلانات مدمجة

مشاركة مميزة

مهرجان مالمو للسينما العربية يختتم دورته الرابعة عشر "كذب أبيض" للمخرجة أسماء المدير يحصد جائزة أفضل فيلم أنف وثلاثة عيون للمخرج أمير رمسيس يحصد جائزة جمهور مدينة مالمو

    مالمو 27 نيسان أبريل 2024     اختتمت فعاليات الدورة 14 من مهرجان مالمو للسينما العربية، وذلك بالإعلان عن الجوائز في حفلٍ حاشد أقيم في ...

سيعجبك أيضاً إن شاء الله