فيلم مثير، شيق، ستستمتع بغموضه وتفاصيله المدهشة؛ لكن ذلك ليس كل شيء. إنه فيلم أنصح بمشاهدته مَن يتعلم صناعة الأفلام بشكل عام، والفيلم القصير على وجه التحديد، أي لو كنت طالبًا تتطلع لصناعة مشروع تخرجك، أو هاويًا جادًا تزمع السير نحو تحقيق مشروعك السينمائي الأول.. شاهده.. صدقني أنت الرابح.
Mirror Mirror هو فيلم دراما نفسية، يمكن أن نعتبره فيلم رعب أيضًا، ألا يتضح ذلك من اسمه الذي يتكرر فيه اسم (مرآة)؟ ألا تعد المرآة في الثقافة الغربية بوابة للأشباح والأرواح كما تعلمنا من أفلام الرعب والخرافات الأمريكية والأوروبية؟
في أوروبا العصور الوسطى حيث كان يسود الجهل والخرافة، استخدمت المرآة للتنبؤ، كانت جزءًا من حرفة السحر الذي كان منبوذا محرمًا ومع ذلك كان منتشرًا وربما نقول رائجًا أيضًا، كانت العرَّافة تخبرك بمستقبلك بقراءة انعكاس صورتك في المرآة، يقال إن الصورة تعبر عن روح الشخص؛ فإذا كانت صورتك في المرآة شائهة فهذا معناه أن داخلك شريرًا وروحك سامة خبيثة مؤذية مهما بدت ملامحك في الحقيقة مهذبة مشذبة أنيقة، والعكس صحيح، أما إذا لم تظهر صورة الشخص في المرآة فذلك دليل على أنه مصاص دماء، فهؤلاء لا روح لهم على الإطلاق.
للغرابة لن ترى مرآة في كامل الفيلم إلا في لقطة واحدة تُظهر البطلة خلال مرآة سيارتها، لكن المرآة رغم غيابها شبه الكلي، تحضر في الفيلم دائمًا مفهومًا، تستطيع أن تقول إن صانع الفيلم المخرج الألماني المولد (بيورن رومان Bjorn Ruhmann) قرر أن يؤدي دور العرافة الأوروبية القديمة؛ فهو يرى بكاميرته انعكاس وجه البطلة في هذه اللقطة اليتيمة، ثم يقضي باقي الفيلم محاولًا استكناه شخصيتها التي تتجسد في صورة البطل.
قصة الفيلم قصة بسيطة، موقف عابر قد يمر به أي إنسان في أي مكان من العالم، على الرغْم من أن الفيلم يدور على طريق منعزل في لندن وفي ليلة شتوية، إلا أنني عن نفسي حدث معي موقف شبيه للغاية في وسط البلد، في القاهرة نهارًا وفي عز صيف مصر القائظ.
امرأة متوسطة العمر، تبدو حسنة النية، تقود سيارتها ليلا عائدة من مكان ما، لا نعرف من أين لكننا نستطيع التخمين: بمظهرها الجاد هذا وفستانها البسيط وحذائها ذي الكعب العالي الذي تضعه على المقعد المجاور مما يعني أنها استبدلته توًا بحذاء عملي، هي فيما يبدو سيدة عملية من الطبقة المتوسطة العليا -إذا جاز هذا التصنيف- لأن رفاهية سيارتها تشي بأنها تملك دخلا جيدًا، وفستانها الأخضر البسيط المحتشم يخبرنا أنها ليست امرأة لاهية مثلا، عائدة من ملهى ليلي، أو أنها كانت في مواعدة غرامية لأن زينتها وتبرجها، ماكياجها المحايد يكشف جدية الشخصية، واعتيادية الموقف، كل هذه المعطيات تكوِّن ماضيًا معينا للشخصية يوحي أنها مثلا عائدة من عشاء عمل. في أثناء عودتها تردد خلف تسجيل صوتي عبارات تبدو أنها دروس أو تمارين نفسية: "ذراعاي مفتوحتان للعطاء واستقبال المتعة My arms are open to giving and receiving joy"، "في مركز كياني رغبة لا نهائية للحب At the center of my being is an infinite will of love"، "أنا جاهزة للطيبة والكون يعكس هذا مرة أخرى لي I'm ready to kindness and universe reflects that back to me"، ومع كلمة يعكس يبدأ الانعكاس في العمل.
هل نستخدم في مصر لفظًا مشتقًا من العكس للتعبير عن الكوارث التي تعرقل مسيرنا؟
نعم، العكوسات.
هذا تمامًا هو الحال في الفيلم، فما تقع البطلة في أسره ينطبق عليه تعبيرنا الشائع (عكوسات)، فجأة تجد أمامها سيارة تفر بعد أن يلقي قائدها شخصًا مسكينًا على قارعة الطريق، ربما تعرض للاعتداء أو حادثة ما، والسيدة (البطلة) تبدو عطوفة جدًا، ولا تتورع عن مد يد العون للفتى الذي وجدته، تأخذه معها في سيارتها لتوصله إلى أقرب مستشفى، لكن خلال الرحلة تكتشف أنه يضايقها بتكرار الكلام الذي تقوله، في البداية تتصور أنه مصاب بصدمة عصبية أو شيء من هذا القبيل، لكن تكراره للكلمات يتطور إلى استجابة حركية، تضغط زر الراديو فيضغطه محولًا المحطة أو التسجيل الموسيقي الذي ترغب الاستماع إليه ليشغل ذلك الصوت المسجل الذي كانت تسمعه عندما كانت منفردة مما يجعلها محرجة بعض الشيء، يظهر ذلك من تعبير وجهها الممتعض، تقول له "توقف"؛ فيمد يده إلى مقود السيارة فتضطر إلى إيقافها بعد أن يحرفها عن الطريق، تطلب منه المغادرة لكنه يستمر في مضايقتها كأنه شيطان صغير، دون أن تدري تضربه بفردة حذائها ذي الكعب العالي فتفقأ عينه.. تصاب السيدة بصدمة.. تصرخ، ويتحرك الفتى للخلف قليلًا فتصدمه سيارة في الاتجاه المقابل، تغلق باب سيارتها وتفر بها.. يترجل سائق العربة التي صدمته ليحاول إنقاذه، هنا نكتشف أن الفتى مازال حيًا وأنه بعين واحدة يبدأ موجة جديدة من تكرار الكلمات، فكأن القصة تعيد نفسها من البداية، في بناء دائري يشير إلى إمكانية تكرار هذه القصة وإلى امتدادها اللانهائي.
كل شيء في بنية الفيلم ينبهنا إلى حضور المرآة كاستعارة.. مفهوم الانعكاس موضوعًا وليس شكلا.. من البداية ونحن نرى التترات نجد كلماتها منعكسة حول محور رأسي، كلمات المسجل الصوتي وتكرارها على لسان البطلة.. انعكاس. توظيف العدسة الأنامورفية (الضاغطة للصورة أفقيًا) Anamorphic lens والبريق الذي تصنعه حول مصدر الإضاءة والذي يشبه خطًا أفقيا يفصل البطلة وهي تنحني عن الشاب المتمدد بجروحه على الأرض.. هذا انعكاسٌ أيضًا، وهذه اللقطة مفتاح تفسير العمل، فالبطل فيما يبدو انعكاس مرآوي للبطلة، بوابة ترى من خلالها عالمها الباطني العميق، الجانب المظلم في نفس كل منا الذي وصفه فرويد بال(هو)، العقل الباطن الذي يحوي الدوافع الغريزية والعدوانية، ولنقل الطيش الصبياني الكامن في نفوسنا، هذه الصورة أو لنقل المسخ القرين الساكن بدواخلنا هو ما نحاول أن نكبته ونخفيه فندفعه في أعماق نفوسنا بعيدًا عن عالم الظاهر المغرق في المظاهر المهذبة المشذبة التي نرتديها كأقنعة نجابه بها العالم، وهو ما كانت البطلة تحاول تحقيقه عندما كانت في سيارتها تمارس تمرينا نفسيًا شفاهيًا قد يساعدها في نصرة الأنا العليا أو الSuper-Ego في حربها المستعرة ضد الهو لتحقيق التوازن النفسي والرضا المجتمعي، لكن ذلك الكامن المتربص بها يقع في طريقها ويوقفها فجأة لتصطحبه بكامل إرادتها إلى داخل سيارتها، بمجرد أن تغلق الباب ينكتم الصوت فأجدني من مقعد المشاهد أستحضر آية قرآنية تقول "كل نفس بما كسبت رهينة" كذلك هو محبسها ذلك حيث هي بكامل رقيها وأناقتها وطيبتها في ذلك الحيز الضيق مع ذلك الشخص الغريب الغامض.
اختيار المؤديين للأدوار خدم تحقق الشخصيات إلى حد بعيد، المرأة بطولها وملامحها التي تدل على امرأة ناضجة قوية فيها من الطيبة ما يسمح بوقوعها في المأزق، وعندها من الشكيمة ما يسمح بخوضها الصراع حتى النهاية، الشاب الذي أدى الدور المقابل أيضًا كان اختياره صائبًا فهو شاب فيما يبدو في العشرينيات من العمر، لكن قصر قامته وهيئته توحيان بكونه صبي صغير مثير للشفقة يمكن لامرأة مثلها أن تتعامل معه بروح الأم، وفي نفس الوقت ملامح المراهق تسمح بتحوله فجأة إلى نَزِقٍ يحفز عوامل الضيق والحنق ويدفع الأحداث والمشاعر إلى التحول من التعاطف إلى الصدام.
قال صانع العمل بيورن رومان في حديث منشور أنه كان محتارًا في تصور شخصية الشاب الذي يقع في طريق البطلة ويخترق وحدتها وسلامها النفسي الذي تحاول الحفاظ عليه، هل هو شخص بغيض واقعي، أم عفريت حقيقي جاءها من الجحيم، أو أنه تجسد لمخاوف البطلة التي ربما يشير ترديدها لعبارات توحي بالإيجابية والتوافق النفسي إلى اضطراب داخلها تحاول إخفاءه، فيكون الآخر هنا هو الجحيم ذاته، كأنه تمثيل للعبارة التي تقول: "الجحيم هو الأخرون" تلك العبارة التي قالها الفيلسوف الوجودي والأديب جان بول سارتر في مسرحيته (لا مخرج) والتي عرفناها في العربية باسم (لا مفر)، ظهور الفتى فجأة يعمل على جعل المرأة تكتشف الهوة العميقة أو الهوات داخل نفسها، فتحول المعرفة حياتها إلى جحيم حقيقي، وهنا نتذكر تقليدًا دراميًا قديمًا أشار له أرسطو منذ ما يقارب الألفين وأربعمائة عام وهو التعرف والتحول، البطلة المتقوقعة في عالمها المحدود تدرك فجأة وجود الآخر فتشق طريقًا إلى خارج قوقعتها تلك، تكتشف وجودًا آخر، انعكاسًا -ربما- لكل الأشياء البغيضة في أعماق نفسها. هذه المعرفة تحدث التحول الدرامي الأكبر في القصة/الفيلم، وأيضًا في حياة البطلة.
بإحساس مرهف، وتعبير بليغ؛ استطاع صناع الفيلم توظيف مكان الحدث الذي كان طريقًا فرعيًا بعيدًا عن العمران، والزمان الذي بدا في ليلة شتوية، الإضاءة التي لم تعمد إلى المبالغة التعبيرية لكنها واصلت تحقيق نفسها بخفاء تام لتعطي أجواء قاتمة وفي نفس الوقت شديدة النعومة، أيضًا تراك الصوت الذي تدخل بتوظيف محكم للمؤثرات الصوتية بشكل واضح وحاسم في فصل الأجواء تمامًا بين داخل السيارة وخارجها.. كل شيء محسوب بدقة ليكثف ما يحصل عليه المشاهد من المعلومات والأحاسيس في حيز لا يتخطى الأحد عشرة دقيقة، مما يجعل الفيلم نموذجًا رائعًا للفيلم القصير ننصح بمشاهدته.
أحمد صلاح الدين طه
1 فبراير 2024
dedalum.info@gmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق