مرحبًا بكم في ديدالوم مجمع الفنون

منصة الفن والأخبار الثقافية الرائدة

أحدث الأخبار والمقالات

‏إظهار الرسائل ذات التسميات فيلم. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات فيلم. إظهار كافة الرسائل

الأربعاء، ديسمبر 18، 2024

مجلة سومر السينمائي 18: إضاءات جديدة على السينما البديلة والخيال العلمي

 

سينما من كل الزوايا: صدور العدد 18 من مجلة سومر السينمائي


صدور العدد الجديد من مجلة سومر السينمائي (العدد 18)
 

  صدر مؤخرًا العدد الثامن عشر من مجلة سومر السينمائي، المجلة الشهرية المتخصصة التي تصدر عن مهرجان سومر السينمائي الدولي. يضم العدد الجديد مجموعة غنية من المقالات والدراسات السينمائية لنخبة من الكتّاب والنقاد العرب، تتناول قضايا السينما العالمية والعربية من زوايا نقدية وفكرية مميزة.
 

أبرز الموضوعات:
يتضمن العدد مقالات ودراسات تتناول موضوعات مهمة مثل:

  • السينما البديلة ودورها في تقديم رؤى جديدة.
  • السريالية وأثرها في نقد المجتمع عبر السينما.
  • أفلام الخيال العلمي والميزانسين في السينما المصرية.
  • تأثير النكبة على السينما وأعمال تعيد قراءة التاريخ من زوايا جديدة.
  • دراسات نقدية لأفلام عالمية بارزة وتحليل قضايا السلطة والهوية في السينما.

 

الكتّاب المشاركون:
يضم العدد مقالات لعدد من أبرز النقاد والكتّاب العرب، من بينهم نزار شهيد الفدعم، صفاء زهير، ثناء هاشم، ناجح حسن، هشام الودغيري، محمد بنعزيز، نزار السامرائي، هاني حجاج، وأحمد صلاح الدين طه.


 

عودة قوية لمجلة سومر السينمائي.. أحدث الدراسات وأقلام النقاد

 

للتواصل والاطلاع على المزيد:

  • يمكن متابعة المجلة عبر صفحتها الرسمية على فيسبوك:

Sumer Film Magazine

 

سومر السينمائي 18: دراسات وأبحاث تكشف أسرار الشاشة الكبيرة

 

الثلاثاء، ديسمبر 10، 2024

الدروج.. إرهاصات سينما عمانية تنتظر الكشف عن كنوزها الدفينة

 

الدروج.. إرهاصات سينما عمانية تنتظر الكشف عن كنوزها الدفينة


  تبدو السينما لنا إزاء عُمان مساحة مثيرة للدهشة؛ بلد مثل عمان بكل ما تشمله من تاريخ طويل للغاية لأرض استوطنها البشر منذ أمد يمتد إلى ثمانية آلاف عام، شهدت خلالها تطورًا للحياة. ظهرت وتسلطنت فيها ثقافات وحضارات، ممالك ولدت فيها وهجرات أمتها، طريق تجارة عالمية مر بها وغزاة طمعوا في خيراتها. أرض شديدة الثراء ومجتمعات متنوعة ومتآلفة بين الريف والحضر والبادية. سلام ودعة في الطبيعة الخلابة وسكانها، فورة هبت وثورات شبت من أجل طرد أطماع الأوروبيين وتأسيس دولة حديثة.. كل ذلك ولم نر سينما تضاهي هذا الزخْم الرائع رغم أن البلد مؤهلة للغاية لتكون لا أقول مصدرا للأفلام، بل مركزا لصناعة السينما في المنطقة.


  لذلك نجد الترحيب بالتجارب السينمائية التي تأتينا من هذا البلد الطيب بين حين وآخر كإرهاصات نرجو أن تستمر وتجد دعما يثريها وتعاونًا يرتفع بها إلى مركزها الذي يليق لها والذي ما يزال منتظرها. من هذه التجارب أمتعنا فيلم الدروج وهو فيلم قصير لواحد من الناشطين ذوي الشغف بالسينما والقص ورعاية نشر الثقافة السينمائية من خلال الجمعية العمانية للسينما، وأخيرًأ أراد خوض مجال الإخراج من خلال الدراسة وليس الموهبة فقط فأم المدرسة العربية للسينما وتتلمذ على يد الرائدة الدكتورة منى الصبان، وهو (حُمَيد بن سعيد العامري) الذي كان هذا الفيلم مشروع تخرجه رغم أن خبراته السينمائية تتخطى فكرة المشروع.


  الدروج هو اسم يبدو لنا غامضًا. كلمة باللهجة العمانية يبدو أنها مشتقة من لفظ (الدرج) وهي على ذلك تشير إلى تدرج ما، هل هو درج صاعد من الذات إلى الوجود أم هابط من الشخصية (المظهر) إلى أعماق النفس بأغوارها ومكامنها السحيقة الغامضة؛ يتركنا العنوان بذكاء مع التساؤل، بوابة أولى لسبر أغوار القصة تشير ولا تكشف المعنى.


  اختار حميد العامري الذي هو أيضًا كاتب السيناريو أن يبني قصته متبعًا قواعد القصة القصيرة الكلاسيكية؛ فيقدم لنا لحظة كاشفة للماضي سابرة للمستقبل:

  تذهب أم مع ابنها، الذي قدر له الله أن يكون من ضعاف السمع (لا نكتشف ذلك إلا في آخر الفيلم) إلى الشاطئ، حيث متسع للعب الصغير ولتأمل الأم لحالها والضغوطات التي تعانيها كأرملة بعد فقد الزوج، فمن جهة تجد من يحثها على الزواج لأنها ما تزال صغيرة، ومن جهة أخرى نجد حماتها تهددها تهديدًا قطعيًا بأخذ ابنها منها لو تزوجت، ومن ناحية ثالثة تصارع أمومتها التي تفرض عليها إحساسًا بالمسؤولية تجاه ابن يحتاج إليها في سنه هذا وحالته تلك، وأنوثتها التي تحتاج أن تكتشفها من خلال رفيق عمر افتقدت وجوده مبكرًا.


  الحدث الدرامي الرئيس الذي خلق الدراما هو رحيل الأب الذي وقع قبل بداية الأحداث، خارج خط السرد الرئيس، وهو حدث قوي في المجمل لصنع دراما إجتماعية مؤثرة، ويمكننا أن نتذكر عددًا كبيرًا من الأفلام العظيمة التي بُنِيَت أحداثها على فعل درامي مماثل، على سبيل التوضيح وليس الحصر عندنا: فيلم (بابا أمين) ليوسف شاهين، و(بداية ونهاية) لصلاح أبوسيف، و(العار) لعلي عبدالخالق، و(سواق الأتوبيس) لعاطف الطيب، وغيرها الكثير مما يدل على أهمية الحدث وهو مصاب جلل بالنسبة لكل أسرة في مجتمعاتنا الشرقية التي يكون قيامها على أساس رعاية الأب، رب الأسرة وولي أفرادها المهيمن بإذنٍ رباني والمكلف بأمر إلهي. غيابه سواء بالموت أو الهجر أو التفريق القسري لأي سبب يؤذن بانهيار البنيان. أزمة للأم/الزوجة وتشريد للذرية إلا أن يُستبدل راعٍ براعٍ آخر لتستمر الحياة.

  

  قوة الحدث الرئيس يتبعها قوة حدث آخر هو نقطة التحول في خط السرد، وهو غيابٌ آخر، غياب الابن الذي يأخذه اللعب إلى الاختفاء فتظن الأم أنه غرق في البحر. وبمعرفتها تلك تتحول حياتها إلى الشقاء، لكن يحد من أثر الشقاء أنه تحول من شقاء إلى شقاء وليس من نعيم إلى شقاء. الزوجة تعيش جحيم خواطرها أصلا فيكون فقدها للابن مجرد جحيم آخر، ويبدو أن صانع الفيلم كان قاسيًا إلى حد كبير في تصوره لحياة امرأة في مثل تلك الظروف، فرغم ما يبدو ظاهريًا من أن الفيلم يناقش معاناتها بحياد عقلاني إلا أنه آخر الأمر يحكم عليها بالجهل بمصير الابن وذلك عقاب قاس لأم، بينما يكون أكثر لطفًا مع المشاهدين فيعطينا أملًا عندما نرى الطفل لا يزال حيًا مختبئًا يلهو في مكان ما على نفس الشاطئ.


  الأم وابنها هما الشخصيتان الرئيستان، محور الفيلم، يعرفنا صانعه بهما بشكل جيد لكنه يغفل إلى حد كبير عن إشباعنا بتفاصيل تلك العلاقة الخاصة بين الاثنين، تلك العلاقة التي يفترض أن تدفعنا للتعاطف مع الأم أو الخوف والقلق بشأن الصغير، نعرف على استحياء في آخر الأحداث كون الصغير من ضعاف السمع وهو ما بدا تداركًا من العامري لتبرير نقطة التحول لكننا لا نعايش مأساة الشخصية من البداية، نجد إشارات في الحوار وفي الأحداث الموازية (مشهدي الفلاش باك) إلى وجود إعاقة ما عند الصغير لكننا لا ندرك كنهها فمثلا إلقاؤه الكرة على فنجان الشاي أمام قريبة الأم، وكذلك كسر المزهرية في منزل الجدة، هذه أمور تقع ويمكن أن يأتي بها أي طفل في هذا السن دون أن يكون ذلك قضية تشغل الأسرة أو تحفز ردود أفعال مبالغ فيها كما نرى من تعبيرات الضيفة أوالجدة.


  شخصية الأم أيضًا كانت تستوجب استحضار مزيد من تعاطف الجمهور، رغم الأداء الجيد للفنانة حبيبة الصلطية، لكن بناء الشخصية نفسه كان بحاجة لمزيد من النقاط القادرة على الغوص في نفوس المتلقين للنهل من مشاعرهم العميقة؛ فعلى سبيل المثال نحن نرى امرأة في سن النضج، قوية متماسكة، تتمتع بحياة رغم غياب الأب إلا أنها ليست منهارة فهي تعيش في مستوى اقتصادي جيد، تملك سيارة عائلية ولديها هاتف مناسب تتلقى عليه اتصالا من صديقة أو قريبة يعني إن لديها أصدقاء فهي لا تعاني الوحدة مثلًا، وتتمتع بعائلة تضمها ولابنها جدة تعرض عليها طواعية أن تربي الابن بدلًا منها (مثلما ربت أباه)، وهذه الجدة بدورها تعيش في منزل كبير يشي بطيب الحال. كل هذه العناصر تجعلنا نسأل أنفسنا: (ماذا لو؟):

 ماذا لو جعل صانع الفيلم البطلة لا تزال مراهقة بأن تكون تزوجت في سن مبكر جدًا وترملت وهي بعد صغيرة جدًا، لها حاجاتها ومتطلباتها الغريزية التي لن يلومها عليها عاقل؟

 ألم يكن ذلك سببًا وجيها لحفز تفاعل المتلقي مع الشخصية فتجد بعض التعاطف مع قلقها وانشغالها عن ابنها (فِلذة كبدها) بالتفكير في مستقبلها العاطفي؟!

 ماذا لو عايشنا سعادتها وعلاقتها الخاصة القريبة بالابن مما يجعلها تستبعد أي احتمال للتخلي عنه وتعتبر فكرة إبعاده عنها مأساة تحاول الفرار منها؟

 ماذا لو كانت تعاني الفقر والحاجة مما يضطرها إلى الزواج بآخر أو اللجوء إلى أهل الزوج لطلب المعونة فيكون ذلك سببًا لعمق المأساة؟

 ماذا لو اطلعنا على ظلال حياتها مع زوجها الراحل، هل كانت تحبه؟ هل كان عطوفًا م قاسيًا معها؟ هل كان رحيله مأساة أم مجرد حدث عادي؟ ماذا لو عايشنا أزمتها كأنثى في مقتبل العمر لها حاجاتها النفسية والجسدية والاجتماعية التي ترفع قلقها وضيقها وتؤكد أزمتها؟


  الفقرة السابقة كنت لا أود كتابتها، لأنني أفترض أننا كمتلقين ليس علينا أن نفرض رؤيتنا على رؤية صانع العمل، لكن يبقى أن الأفكار التي ترد على خواطرنا ونحن نشاهد العمل هي جزء من العمل ذاته، فقد حفزنا الفيلم على التفكير فيها وبالتالي من حق صانع الفيلم أن يعرفها لأنها امتداد لعمله نفسه، وهذا ما أصبح مصطلحًا عليه في العصر الذي نعيشه في جميع الفنون؛ عصر التلقي، حيث أدرك العالم أن الإبداع الفني لا يسير في خط مستقيم من منتجه إلى متلقيه، بل هو حلقة فيها طاقة مستمرة الحركة مترددة باستمرار لا يفنى. تبدو كما لو كانت انبعثت من الفنان، لكن الحقيقة أن الفنان نقطة على الدائرة التي تمتد إلى العمل الفني ثم إلى المتلقي، ولا بد أن يستمر اندفاع هذه الطاقة نحو المبدع مرة أخرى عبر النقد الذي يحافظ على توهج حلقة الإبداع وسط حلقات أخرى عديدة تشكل الكون الحي بثقافاته المتألقة.


  قدم لنا مدير التصوير محمد العجمي بالتعاون مع المخرج صورًا رائعة تكشف عن جمال الطبيعة في عمان خاصة في لقطات الطائرة (الدرون) الواسعة للشاطئ والبحر، وكانت الكاميرا دائمًا موضوعية تراقب الأحداث ولا تتبنى وجهة نظر الشخصيات. أحيانًا حاول المصور التفاعل مع الحدث من خلال حركة الكاميرا المحمولة للحاق بالأم المكلومة وهي تبحث عن ابنها الغائب. أما من حيث الإضاءة فقد كانت موضوعية واقعية محايدة تمامًا، وهو أمر معتاد في تناول الدراما الاجتماعية رغم أن هذا الأسلوب لا يسمح لمدير التصوير باستعراض مهاراته، لكنه أسلوب يسمح بإفساح المجال للتركيز أكثر على الموضوع.


  الموسيقى رغم أنها ليست مؤلفة خصيصًا للفيلم، لكنها جاءت إلى حد كبير متوائمة مع المشاهد وإن كنا أيضًا نتصور لو أنها موسيقى أكثر ارتباطًا بالبيئة المحلية لكانت أقوى وأبعد تأثيرًا، كما أنها ستضفي طابعًا من الأصالة الفنية.


  قد يمكننا التغاضي مع قوة الموضوع عن بعض الهنات التقنية في الصوت والتي انكشفت عند القطع أحيانًا كما في مشهد لقاء البطلة مع قريبتها، لكنها نقطة مهمة، لأنها تعكر صفو المشاهد وتخرجه من الاندماج مع واقعية المشهد.


  حرص المخرج على أن يكون عمله أكاديميًا يسير كما يقول الكتاب بحذافيره، وهو حرص نتفهمه في مشاريع التخرج، لكن ذلك غالبًا يخفض تألق الروح الإنسانية المبدعة خلف العمل الفني وهي عنصر لا يمكن التغاضي عن أهميته في الإبداع الفني، ومع ذلك لم يمنعنا الحرص على الصنعة من اكتشاف تلك الروح الفنية المتوثبة للإبداع والموهبة التي تعلن عن نفسها لدى سعيد حميد العامري وفريق المبدعين الذين شاركوه صناعة العمل الذي نراه إراهاصًا بكشوف فنية قادمة تأتينا من الخبيئة العمانية التي لم تكشف عن كنوزها الدفينة بعد.


أحمد صلاح الدين طه

الثلاثاء 10 ديسمبر 2024

dedalum.info@gmail.com

  

  

الاثنين، أغسطس 19، 2024

فيلم Dirt وفنية تضمين الرسائل الأخلاقية

 

Lucas Jones,Eve Gordon Dirt Directed by Paul Preston

  كثيرًا ما يميل صناع الأفلام القصيرة إلى الغنائية، علو الصوت وحشد المشاعر والتعبيرات البصرية والسمعية والدراما لتقديم فيلم كأنه طلقة مدفع في لحظة شديدة القصر لكن أثرها يبقى في الذاكرة كصدى صوت أو كحطام قلوب، محل الانفجار.

  بول بريستون أخذ الطريق المعاكس؛ قدم فيلما شديد الرقة والعذوبة، بإيقاع تأملي حالم، يبدو الصراع الظاهري فيه مجرد أثر خارجي لصراع يحتدم داخل الشخصيات، لا ننخرط فيه لكننا ننفعل به، نعايشه بعمق من خلال سرد سينمائي تقليدي يستفيد من تقاليد السينما الكلاسيكية بفهم عميق لقواعدها وتأثر بالاتجاهات الرومانتيكية في الفن أضفى بعدًا من السحر والغموض على قصة هي في الأصل شديدة الواقعية، وأحداث قد تقع (وهي تقع بالفعل) في أي مكان من العالم.

  الحدث الدرامي الرئيسي يقع قبل بداية الأحداث، حيث ينشر رفيق البطلة السابق أو ما عدنا نسميه ب (الإكس Ex) صورة شديدة الخصوصية لها، نكتشف الواقعة مع البطلة في المشهد الأول دون أن نرى الصورة نفسها لكننا نشهد وقع الاكتشاف على وجهها حيث تفزع عندما ترى أن أحدهم أشار إليها في صورة على أحد مواقع التواصل، ترى الصورة وتنصدم، تهرول إلى ذلك الإكس الذي خان خصوصيتهما معًا لكن المسألة تتعقد أكثر عندما تصل إليه في لحظة يكون فيها ظاهرًا على الهواء، يعرض موسيقاه على متابعيه، تقاطعه متوترة قبل أن تكتشف أنها عقدت الأمور أكثر بظهورها معه، تنصرف مرتبكة وقد شعرت أن العالم يتآمر عليها.

  تواجه مشاكل في دراستها الموسيقية، بينما يسيطر عليها الإحباط والشعور بالدونية والضياع وعدم القدرة على تخطي الأزمة، حتى إنها عندما تفكر في مواجهة رفيقها السابق وتهديداته تقع ضحية لهجومه واستهزائه واستهتاره بمشاعرها. تقف عاجزة ولا تستطيع دحره، بل تنصرف خائبة، لكن كما يقال إن الضربة التي لا تقصم الظهر تقويه يبدو أنها تتخطى المرحلة، بل تنشر بنفسها الفيديو كاملا لهذه اللحظة التي دعاها فيها رفيقها لخلع قميصها، ففعلت لاهية ظنًا منها أن التسجيل سيظل خاصًا جدًا بين الحبيبين. لم تحسب مطلقًا أن العلاقة بينهما قد تنفصم. قال لها: "ألا تثقين بي" فابتسمت بسذاجة وصبت في جوفها كوب بيرة في جرعة واحدة، وراحت لاهية تنفذ أوامره التي بدت لها ودودة وبسيطة للغاية قبل أن تكتشف حقيقته.

  نشرت الفيديو على صفحتها الخاصة وكتبت عليه عنوانًا ذا مغزى: "There are two tragedies in life; Not getting what you want, and Getting it" أو (هناك نوعان من المأساة في الحياة؛ أن لا تحصل على ما تبتغي، وأن تحصل عليه)، نشرت ذلك وراحت تكمل مقطوعتها الموسيقية وتستمر في طريقها بهدوء.

  الفيلم القصير (Dirt) يحاول تقديم دعم نفسي، عظة أخلاقية دون أن يقع في فخ الصوت العالي، دون أن يخرج عن عالم الفن الذي يفرض على صانعه أن يُلَمّح ولا يُصَرّح، وفي سبيل ذلك ينتصر للبطلة ويجعلها هي نفسها تنتصر لنفسها من خلال صراع مواز حيث تجاهد البطلة من أجل إنجاز مقطوعة موسيقية تسمح لها باستكمال دراستها دون عوائق، وبينما تتعثر مرارا وتكرارا؛ نتابع البطلة ونحن نتتبع قصتها مع حبيبها السابق ونجدها بعد إخفاقات آخر الفيلم تجلس على البيانو وتعزف مقطوعتها التي اكتملت. هكذا إذا نكتشف أنها عَبَرَت أزمتها وانتصرت على مخاوفها وتهديدات الآخر.

  بنية الفيلم جاءت كلاسيكية نكاد نرى فيها تطبيق أقدم قواعد الدراما الأرسطية بحذق شديد يدل على فهم عميق ووعي تام بها. بوضوح نرى تصاعد الأحداث من بداية فوسط ثم نهاية.

  في البدء نتعرف على الشخصية من خلال جلوسها ومحاولتها تأليف مقطوعة موسيقية، ثم تأتي المعرفة (قاعدة التعرف والتحول) حيث تكتشف صورتها الخاصة التي تعتبرها مشينة وقد نشرت على وسائل التواصل الاجتماعي فتتحول حياتها من الدعة إلى الشقاء، وتسارع بالذهاب إلى الآخر، وكما يقول سارتر الجحيم هو الآخرون، وكذلك تجده حيث نصب لها الآخرُ شَرَكًا: إما أن تعود إليه أو يدمرها. وهنا محور الصراع الذي لا تكون الدراما الكلاسيكية إلا به، صراع البطلة من أجل إثبات وجودها في عالم داخلي يحكمه خوفها وشعورها بالضعف والانهزام، تتصور الجميعَ مشتركين في التآمر عليها، الفتيات اللاهيات في سكن الطالبات، المشرف في الكلية، رفيقها السابق وحتى أصدقاؤه الذين يصوبون نظراتهم القاسية إليها.. الكل ضدها.

  اختيارات صانع الفيلم الفنية سهلت حكيه لقصة آريا الفتاة المغلوبة على أمرها والتي ينتصر لها في النهاية بجعلها تتخطى محنتها آخر الأمر وتنتصر على مخاوفها. اختيار الممثلين كان خطوة مهمة: آريا أدت دورها Eve Gordon بملامحها البريئة التي تدفع المشاهد للتعاطف معها والتي أكدتها الإضاءة الناعمة التي تأتي دائمًا مباشرة تجعل الوجه مشعًا بمظهر ملائكي، وليون أدى دوره الممثل الشاب Lucas Jones ذو الملامح الحادة المنحوتة التي أكدتها باستمرار الإضاءة من خلال وجوده دائمًا في مناطق الظل بحيث يسقط الضوء على وجهه من الجانبين ليرسم ظلالًا مخيفة على الوجه توحي بما يعتمل في نفسه من سواد زاده استخدام عدسة واسعة الزاوية (Wide angle lens) في اللقطات المقربة للوجه، كلا البطلين يبدوان كما لو كانا صورتين من تراجيديا إغريقية قديمة، ولو تصورنا آريا بملامحها تلك ربة للدعة والجمال سنتصور ليون كأحد آلهة الشر أو الحرب أو الهلاك.

  بحرص أيضًا تم اختيار الأماكن والأزمنة والملابس والإضاءة المرتبطة بالشخصيات فبينما نجد آريا دائمًا في أماكن ضيقة مثل غرفتها أو ممرات سكن الطالبات الخانقة تحت إضاءة خافتة (Low key) تؤكد بؤسها وأزمتها النفسية وصراعها الداخلي، يؤكده أيضًا إطار الصورة حيث تظهر معظم الوقت في لقطات مقربة وحتى عندما تكون في لقطة واسعة في استوديو الموسيقى يتم تصوير الغرفة داخل إطار (من خلف نافذة زجاجية) مع تكرار ظهورها في الكادر للإيحاء بالازدحام والتخبط الذي تعيش فيه.

  ليون عدو البطلة لا نقابله إلا داخل بار سواء كان جالسًا وحيدًا بصحبة هاتفه الذي يَبُثّ من خلاله على الهواء تجاربه الموسيقية عبر وسائل التواصل، أو بصحبة آخرين يتبادلون الأحاديث حول كؤوس البيرة.. نفس المكان دائمًا كأنه يسكن ويعمل ويقابل أصدقاءه فيه. اسم البار قد يكون ملفتًا: Polar Pear أو الدب القطبي وهي إشارة ربما لما يمثله ساكنه ككائن وحشي مفترس.

  عندما جاءت البطلة إليه للومه على تهديده الذي أرسله لها، خرج معها من البار لكنهما لم يخرجا إلى الشارع، بل بقيا في ممر ضيق ملحق، ليبدو المكان مناسبًا لهذا الصراع الذي وجدت فيه البطلة نفسها تواجه كائنًا همجيًا في حفرة حبست معه فيها فلا نجاة ترجوها. عندما يتركها بعد إهانتها وتحطيم أعصابها تخرج إلى الشارع تبدو كسيرة النفس خاسرة يائسة.. إنه نفس المكان الذي يشهد الآخر عندما يكتشف أنها تخطت تهديداته وانتصرت، هذه المرة يكون هو الخاسر الخائب في نفس المكان.

  الحوار أيضًا تم توظيفه بعناية فائقة، كلمات بسيطة قليلة لكنها تشكل رصاصات تخرج من فوهة بندقية في الوقت المناسب لتصيب الهدف بدقة، مثلا وليس حصرًا تقول البطلة وهي تجادل الآخر:

-          لقد كانت صورة خاصة It was (F..) private photo.

فيجيبها بنطاعة منقطعة النظير:

-          لقد كانت! It was.

حوار بسيط وكلمات محدودة للغاية اختصرت الكثير وساهمت مع تعبيرات الوجوه ولغة الجسد في رسم الشخصيات وتكثيف المشهد لينقلنا إلى مرحلة الانفعال وإصدار الأحكام على الأشخاص والأحداث والتفاعل وتكوين توقعات واحتمالات لمستقبل كل منهما، الولد يقول ذلك ويحتسي جرعة من كأسه باستهتار فيرسم تفاصيل شخصيته ويحدد انطباعنا إزاءه.

  هناك أداة أخرى وظفها بول بريستون ببراعة لنقل المعلومات دون أن يذكرها بشكل مباشر وهي الكلمات المكتوبة، عنوان اللايف الذي يظهر الفتى به والذي يواري من خلاله عن متابعيه وجهه القبيح خلف قناع من الغموض والحكمة المزيفة: "سوف أراكِ في عالم آخر، وسنكون كلانا قِطَّيْن"، وعنوان الفيديو الذي تنشره الفتاة بعد أن تعزم أمرها وتتغلب على مخاوفها والذي يتحدث عن تراجيدية الاختيارات المتاحة للبشر في الحياة، وبين ذلك نجد الرسائل النصية على اللابتوب والموبايل وحتى اليافطة التي تحمل عنوان البار.

  فيلم Dirt الذي يمكن ترجمة اسمه إلى قذارة أو بذاءة أو رجس، يفجر تساؤلًا لدى المشاهد حول: (من البذيء؟) هل هو تلك الفتاة التي تجد نفسها فجأة والعالم يتداول صورتها عارية، أم ذلك الرفيق النذل الذي يبتزها عاطفيا ويضغط عليها ويعرضها للإذلال حتى يتحكم فيها دون أن يأبه بما أحدثه بقلبها من شرخ قد لا تداويه السنون.

  فيلم رقيق يسير بلطف وينقل رسالته بهدوء رومانتيكي يتغلغل في النفس ويصيب شغاف القلب.

أحمد صلاح الدين طه

18 أغسطس 2024

dedalum.info@gmail.com

 

لمشاهدة الفيلم على فيميو اضغط هنا

لمشاهدة الفيلم على يوتيوب

 

Lucas Jones,Eve Gordon Dirt Directed by Paul Preston

Lucas Jones,Eve Gordon Dirt Directed by Paul Preston

 

Lucas Jones,Eve Gordon Dirt Directed by Paul Preston

Lucas Jones,Eve Gordon Dirt Directed by Paul Preston

Lucas Jones,Eve Gordon Dirt Directed by Paul Preston

Lucas Jones,Eve Gordon Dirt Directed by Paul Preston

الجمعة، يوليو 26، 2024

الساندوتش الذي كان مؤهلا لدور البطولة في فيلم عطيات الأبنودي

فيلم الساندويتش لعطيات الأبنودي


  في إحدى الدورات التي حضرتها قبل سنوات عديدة عن صناعة الأفلام التسجيلية، ظل أحد المحاضرين يغذي عقولنا بمعلومة مفادها أن كل شيء وكل شخص يصلح ليكون موضوعًا لفيلم تسجيلي، معلومة تلقتها عقولنا بتقبل تام لأننا جميعًا في تلك المرحلة كنا محترفين وذوي خبرة جيدة تتيح لنا التأكد من أن المعلومة صحيحة وقد اختبرنا صحتها في أعمال مختلفة للتليفزيون.  عندما وصلنا إلى مرحلة التطبيق العملي في الدورة التدريبية وكان على كل منا طرح فكرة لتنفيذها كمشروع نهائي، وجدنا نفس المحاضر يعارض بشدة تنفيذ مشاريع عن أشياء تبدو غير براقة مثل فكرة عن كوب شاي (مثلا)، أو كافيتيريا عم فلان التي بجوارنا.

  كل من طرح فكرة كهذه كان يرى أو يتصور في ذهنه إمكانيات صناعة فيلم جيد من خلالها.. لكن الرجل رفض قطعيًا وصول أي فكرة منها لمرحلة التنفيذ معلنًا أن: "ما أهمية كوب الشاي أو صانع الشاي لنصنع عنه فيلمًا.." أي أنه في آخر الأمر ضرب الحائط بكل المفاهيم النظرية التي درَّسها لنا طوال أمد الدورة.

  في فيلم الساندوتش، كانت عطيات الأبنودي من الشجاعة بحيث استكشفت من خلال كاميرا سينمائية مواطن القوة في شخصية (سندوتش اللبن الطازج بخبز البتاو الصعيدي) التي جعلته جديرًا بأن يكون بطلًا ترصد من خلاله تقاطعات الذاكرة والموروث مع الحاضر ومع أبجديات المكان وطبيعة الإنسان وتفاعله مع البيئة التي يعيش فيها أو كان يعيش فيها يومًا ما.

  لا يمكننا أيضًا إغفال دور عبد الرحمن الأبنودي في هذا الفيلم، ذلك الدور الذي قد يكون متواريًا خلف وصفه في تترات الفيلم بأنه صاحب الفكرة.. فقط صاحب فكرة!!

  عندما نبحث قليلا في حوارات الأبنودي، شاعر العامية الراحل الكبير، ونقرأ كثيرًا من أشعاره نكتشف أن الفيلم ساحة أخرج من خلالها صورًا عن ومن طفولته في قريته أبنود. تعاون مع المخرجة الوثائقية سابرة الثقافة المصرية الباحثة عن ذات المواطن المصري وهويته الآنية غير المصطنعة من سلاطين قمة الهرم الثقافي أصحاب الوجاهة والانحيازات الأيديولوجية. معًا، الأبنوديان قدما عملا مشتركًا يعد قطعة فنية فريدة، ذاخرة كمكنون الجواهر بألق تُزيده الأيام سطوعًا.

  موضوع الفيلم يدور حول أحد الأطعمة التي يتقوت بها أطفال القرية النائية أثناء يومهم الغني بالأحداث. يخرجون أول النهار لرعي الأغنام وفي جيب كل منهم بتاوته، رغيف من خبز البتاو الصعيدي، وهنا نلفت النظر إلى تشابه الاسم مع البتاو الفلاحي الذي يصنع في شمال مصر لكنهما نوعان مختلفان كليًا، فبينما خبز الشمال رقيق مبطط مقرمش، يكون الجنوبي كما وصفه الأبنودي في أحد أحاديثه أشبه بالقنبلة اليدوية شديد الصلابة، يقال إنه لو ألقي على أحد كان كفيلا أن (يفتح قرنه) أي يشج رأسه، لكن شاعرنا عندما سُئل إذا كانوا وهم صغار يستخدمونه في شجاراتهم؛ تبسم وقال: "ومين ممكن يضحي ببتاوته، ما الأرض مليانة طوب".

  البتاو يصنع من دقيق الذرة في الغالب أو الدقيق المخلوط من الذرة والقمح، وهذا هو الفرق الأساسي بينه وبين الخبز الشمسي المصنوع من دقيق القمح الخالص، والذي ما يزال منتشرًا في الصعيد حتى إنه تطور فتضاف له محسنات قوام تجعله أكثر طراوة وأسهل في الأكل على خلاف البتاو شديد القساوة، الذي تعد قساوته عيبًا مؤقتًا فيه وميزة ممتدة حيث يمكن أن يبقى صالحًا للأكل لأمدٍ بعيد فكان مناسبًا (في تلك الأيام) لطلبة المدارس الثانوية والجامعات الذين كانوا يضطرون للالتحاق بمدارس بعيدًا عن قراهم في المدن والمراكز. يكون معهم جوال مليءٌ بالبتاو يأكلون منه طوال العام دون أن يصيبه أي تلف، كل ما عليهم تسخينه بعد رشه بالماء أو غمسه في اللبن.. غالبًا هذا هو نفسه نوع الخبز الذي وجد في مقابر المصريين القدماء والذي تتداوله المتاحف الآن دون أن يصيبه تغيير يذكر.

  يخرج الأطفال بأغنامهم كأنهم قادة فرق في جيش عرمرم، كل منهم معه بضع عنزات ونعاجًا وخرافًا لأهله أو لجيرانهم، ويجتمع الكل تحت قيادة عم العادلي، ذلك الرجل العجوز الذي يتابعهم وفي يده عصًا طويلة لا تملك سحر عصا موسى لكنها كفيلة ليقود بها الجمع فيرعى الغنمَ ورعاةَ الغنم. يمرون خلال دروب القرية وساحاتها في جولة يقضون فيها النهار، هذا عمل يومي يساعد على جعل الأغنام تجوع فتأكل أكثر، والمجهود الذي تبذله في ذلك التمرين اليومي يقوي عضلاتها التي تتحول آخر الأمر إلى لحم أحمر شهي قليل الدسم على مائدة شخص ما.

  بعد الجولة المرهقة يحصلون على استراحة ممتعة. يُخرج كل منهم بتاوته التي أحضرها من بيته ويبدأ في تحضير الساندويتش الخاص به، يبدأ بتفريغ لبابة الخبز، ثم ينتقي عنزة أو نعجة ممتلئة الضرع فيحلب لبنها مباشرة داخل خبزه المفرغ الذي يشبه القرعة أو الطبق المجوف نصف الكروي، وبعد أن يعبئها باللبن يبدأ في إعادة اللبابة ويتركها فيه قليلا ليختلطا ويطرى الخبز ليصير لديه ساندويتش لذيذ غني بالمواد الغذائية المتنوعة التي تكفيه لوجبة مثالية مشبعة.

  هذا الساندويتش كان جزءًا من ذاكرة عبد الرحمن الأبنودي، وغالبًا لم يكن لذلك الطعام حضورٌ كبيرٌ وقت تصوير الفيلم في عام 1975م. أحد الطفلين الذين رأيناهما في الفيلم يصنعان الساندويتش ويأكلانه، في لقاء فيديوي لبوابة الأهرام الصحفية (بعد أن صار هذا الطفلُ الحاجَ حسين إبراهيم. كهلا يتخطى الخمسين أو الستين عامًا) ذكر أنه حينها لم يكن معتادًا على البتاو أو يعرف شيئًا عن ساندويتش لبن الماعز، لكن الأبنودي نفسه في تسجيل تليفزيوني تحدث عنه كجزء من طفولته وأسهب في وصف تفاصيل صنعه كأفضل أنواع الأكل التي اعتادها في صغره خلال اليوم الذي كان يقضيه مع أقرانه في دروب القرية.

  منذ اللحظة الأولى أسست عطيات الأبنودي فكرة أنها لا تقدم مجرد ساندويتش، إنه بوابة تطرح من خلالها قضية.. قضية النأي عن العاصمة: (البعيد عن العين بعيد عن القلب) كما يقول المثل، وقرية أبنود تبعد عن القاهرة حوالي ستمائة كيلومترًا، وكما يشير النص الذي يبدأ به الفيلم لا تقف عندها القطارات التي تحمل السائحين إلى الأقصر. هذا النص يتردد معناه في نهاية الفيلم بلقطات مرور القطار بالقرية حيث يحتفي به الأطفال فيهرولون لاستقباله بفرح ومرح طفولي يقابله بعجلة حديدية لا تكترث بوجودهم بل تترك القرية وترحل مخلفة الصمت.

  مع تترات البداية نسمع صوت حداء بدوي، وهو غناء مأخوذ من الأصوات التي يطلقها حادي الإبل ليجمع ماله في الصحراء. غناء حزين غير مفهوم لنا اليوم، لكنه يحيلنا إلى حالة من التغريب تفصلنا عن الواقع. تخرجنا من الزمن الذي نسي القرية الجنوبية أو تركها عفوًا في لحظة من الماضي. ما تزال تعيش كما كان غيرها يحيون قبل عشرة قرون من الزمان أو يزيد، ومن طرب اللحن الحزين نخرج إلى مجموعة من اللقطات المقربة، ومعظم اللقطات التي ستقابلنا في الفيلم لقطات قريبة، ما يعبر عن اهتمام مدير تصوير الفيلم الدكتور ماهر راضي بالتفاصيل في كل شيء، حتى اللقطات الواسعة التي تأتي في السياق لم تكن شديدة الاتساع، كما لم نر أي استخدام لعدسات متسعة الزاوية طوال الفيلم، وهو اختيار قد يكون لظروف إنتاجية، فلا نتوقع أن تكون رفاهية الاختيار متاحة بالنسبة لفريق العمل الذي قضى وقتًا طويلا وصل في تقديرات أحد المشاركين لشهر أو أربعين يومًا، وهي تقديرات لا يمكن التعويل عليها، لكنها تعطينا فكرة عن المدى الذي اضطر فيه مجموعة السينمائيين القادمين من القاهرة للبقاء في هذا المكان المعزول عن كل عوامل التحضر، فلا نتوقع أن الكثير من الاختيارات التقنية كانت متاحة لهم، ومع ذلك أبدعوا في توظيف المتاح لصنع صورة ساحرة. التصوير عكس الشمس كثيرًا مع الغبار الذي تثيره حركة الحيوانات أضفى طابعًا خرافيًا على اللقطات يؤكد معنى الغربة التي تدعم الشجن الذي يثيره الموضوع. استخدام عاكس الضوء في اللقطات المقربة ساهم في التأكيد على التفاصيل، وهي مهمة للغاية في فيلم تسجيلي خاصة هذه النوعية التي وثقت حياة قد تكون اندثرت، بل إنها حال توثيقها كانت على مشارف الاندثار فعليًا. ملابس أهل الصعيد من الرجال والنساء والأطفال، خاصة الصعيديات داخل البيت وخارجه وتصميمها المميز الذي لن تجده اليوم لأن الجميع أصبح يعتمد على الملابس الجاهزة التي تنتجها آلات المصانع فلا يميز هذه عن تلك إلا المحل الذي اشترين منه ملابسهن بينما ترى كل امرأة في الفيلم ترتدي زيًا مختلفًا عن الأخرى، فالمرأة الشابة التي تعمل في المنزل وتبذل جهدًا في العجن والخبز وتوقد الفرن البلدي الطيني وتجلس أمامه بل وتمد يدها لتلقط الخبز من قلب لهيبه ترتدي زيًا أكثر مراعاة للحركة، فتجده قصيرًا بعض الشيء يكشف الساعدين، هذه المرأة الشابة التي ما تزال قادرة على الإنجاب تجدها ترتدي جلبابًا متسع الصدر ليسهل عليها إرضاع صغارها، على خلاف من تخطين هذه المرحلة العمرية، والجميع عند الخروج من المنزل ترتدين المَلَسَ الصعيدي الأسود المنسدل فوق ملابسهن.

  رصد الفيلم أيضًا هذه العمارة المميزة لبيوت الصعيد التي بنيت كما بنى المصري بيوته منذ فجر التاريخ بالطوب الأحمر والطوب اللبن والطين وجذوع الأشجار والنخيل. الشوارع الضيقة التي تعزل السكان والمارة عن قيظ الصيف وصقيع الشتاء كما أنها تدعم فكرة النمو العائلي للقرى والنجوع، فهي عائلة تستقر بالمكان وتبدأ النمو فتتوالد العمارة بعضها حول بعض حتى تبدو كتلة عمرانية واحدة صماء من الخارج وخلية نحل من الداخل تعج بالحركة والحياة.

  أيضًا نرى بوضوح هذه العلاقة المتشابكة بين الإنسان وحيواناته التي تعيش معه وبه، تحت رعايته وفي خدمته، بينما نجد الولد يحلب عنزته ليملأ بلبنها الطازج ساندويتشه، نصف بتاوته، نجد عنزة أخرى تمد فمها لتلتقط النصف الثاني من سيالة جلبابه، تُطعِمُ وتُطعَم.

  نجد حيوانات مثل الكلب البلدي الغلبان تارة يتمشى بجوار صانعات الخبز وكومة البتاو الطازج دون أن يفكر في سرقة شيء من الطعام ككلاب المدن الضالة، ربما لثقته أن نصيبه من الطعام محفوظ له وأهل البيت لن ينسونه بحال. تارة أخرى نجد كلبًا راقدًا فوق سور أحد البيوت، جالسًا ورأسه منتبه مثل أنوبيس حارس المقابر في مصر القديمة، في الغالب يؤدي مهمة حراسة لم يدرب عليها لكنه بفطرته أدرك دوره الهام في هذه المنظومة.

  عندما يمر موكب الغنم بجوار عجوز تجلس على باب بيتها، لا تنفر ولا تستاء أو يبدو عليها الضيق، كل ما تفعله أنها تدفع النعاج والخراف والماعز بلطف، وعندما يتخلف جدي صغير عن الموكب تقوم بشكل تلقائي لتهشه كي يعود إلى  رعاته، إحساس الجميع بالمسؤولية دون أن يُطلب منهم ذلك.

  إنه مجتمع متكامل متآلف رغم أنه قد يبدو من الخارج كتلة من الفقر والتخلف، إلا أن حقيقته التي لا تظهر للغرباء هي الثراء.. مجتمَعٌ غنيٌّ بذاته، هل تعرف الدعاء الذي نردده ليل نهار: "ربنا أغننا بفضلك عمن سواك"؟ يبدو أن أحد الأنقياء من أهل القرية دعى الله بهذا الدعاء، ولا شك أن الله استجاب له.

  بنية الفيلم قائمة على التسلسل الزمني المنطقي. ما بين مدخلٍ وُظف فيه النص المكتوب الذي يتحدث عن بعد القرية عن العاصمة وعدم وقوف القطارات الفاخرة التي تحمل السياح بها، ونهايةٍ تقدم هذه الحقيقة في وثيقة سمعبصرية تثبتها، بين هذا وتلك نجد تسلسلا من المشاهد التي توضح المراحل التي يمر بها الساندويتش البطل، الموضوع الذي يدور حوله الفيلم، ونلاحظ من الحديث الذي أشرنا إليه لأحد المشاركين في الفيلم أن هناك مَشاهد عديدة أخرى تم تصويرها تتناول صيد السمك ولعب الأطفال وغير ذلك، لكن صانعة الفيلم تقرر حذف الكثير من المادة التي صورت ليصبح التركيز فقط على الساندويتش، ساندويتش لبن الماعز الطازج في خبز البتاو المندثر، الساندويتش الذي كان كفؤا لتظهر من خلاله قصة قرية قصية، حياة سكانها وعاداتهم، ملابسهم وطعامهم وسلوكهم، كل ذلك خلال موضوع قد لا يعده البعض مؤهلا ليُصنع عنه فيلم تسجيلي مهم.

أحمد صلاح الدين طه

26 يوليو 2024

فيلم الساندويتش لعطيات الأبنودي

فيلم الساندويتش لعطيات الأبنودي

فيلم الساندويتش لعطيات الأبنودي

فيلم الساندويتش لعطيات الأبنودي

فيلم الساندويتش لعطيات الأبنودي

فيلم الساندويتش لعطيات الأبنودي

فيلم الساندويتش لعطيات الأبنودي

فيلم الساندويتش لعطيات الأبنودي

 

الخميس، يونيو 13، 2024

50 فيلماً من 28 دولة وفعاليات خاصة.. برنامج مهرجان عمان السينمائي الدولي – أول فيلم (AIFF) من 3 إلى 11 يوليو 2024

 

50 فيلماً من 28 دولة وفعاليات خاصة.. برنامج مهرجان عمان السينمائي الدولي



  أعلن مهرجان عمان السينمائي (أول فيلم) عن برنامج فعالياته حيث يتضمن برنامج الأفلام 53 فيلماً من 28 دولة منتجة ومشاركة في الإنتاج، ويشمل مزيجاً من الأفلام الروائية الطويلة والوثائقية العربية والدولية، بالإضافة إلى الأفلام القصيرة العربية. تم اختيار هذه الأفلام بعناية من بين مئات المشاركات، لتقديم تجربة سينمائية فريدة، حيث يعرض أفلاماً قد لا تصل إلى دور العرض التجارية في الأردن. جميع الأفلام هي عروض أولى في الأردن صدرت في عامي 2023 و2024. من بين هذه الأفلام، ستعرض 12 فيلمًا لأول مرة في العالم العربي. سيعرض فيلمان لأول مرة عالميًا - وهي العروض الأولى على الإطلاق لهذه الأفلام. بالإضافة إلى ذلك، ستُعرض خمسة أفلام لأول مرة دوليًا - وهي العروض الأولى لهذه الأفلام خارج بلدها الأصلي. بالإضافة إلى الجوائز القيمة المختلفة، ستتنافس الأفلام في أربع أقسام للحصول على جائزة السوسنة السوداء المرموقة وجوائز نقدية. سيتفاعل زوار المهرجان مع المخرجين في مناقشات متنوعة بعد العروض. 

ستتنافس الأفلام المشاركة على جائزة "السوسنة السوداء" عبر أربع فئات تنافسية. ثلاث من هذه الفئات تمنحها لجان تحكيم وهي: أفضل فيلم روائي عربي طويل (سبعة أفلام)، أفضل فيلم وثائقي عربي طويل (سبعة أفلام)، وأفضل فيلم قصير عربي (16 فيلماً). بالإضافة إلى ذلك، سيتم منح جائزة الجمهور للفيلم الفائز في قسم "الأفلام غير العربية" (سبعة أفلام).
 
ستُعرض الأفلام في تاج سينما، المسرح المكشوف في الهيئة الملكية الأردنية للأفلام ومسرح الرينبو. للوصول إلى جمهور أوسع في الأردن، سيتم تنظيم عروض إضافية في مختلف المحافظات.
قائمة الأفلام:
الأفلام العربية الروائية الطويلة:

    البحر الأحمر يبكي من إخراج فارس الرجوب - الأردن
    وحشتيني من إخراج تامر روجلي - مصر
    وراء الجبل من إخراج محمد بن عطية - تونس
    المرهقون من إخراج عمرو جمال - اليمن
    إن شاء الله ولد من إخراج أمجد الرشيد - الأردن
    عصابات من إخراج كمال الأزرق – المغرب
    كواليس من إخراج عفاف بن محمود، خليل بن كيران - المغرب، تونس
    أنيماليا من إخراج صوفيا علوي - المغرب

 
الأفلام العربية الوثائقية الطويلة:

    حلوة يا أرضي من إخراج سارين هايربديان - الأردن
    هوليوود جيت من إخراج إبراهيم نشأت - مصر
    إخفاء صدام حسين من إخراج هلكوت مصطفى - العراق
    لا أرض أخرى من إخراج باسل عدرا، حمدان بلال، يوفال أبراهام، راشيل زور - فلسطين
    واصلة من إخراج رين رزوق - لبنان
    ق من إخراج جود شهاب - لبنان
    مكاين الروح من إخراج حميدة عيسى - قطر

 
الأفلام العربية القصيرة:

    حلاوة مرة من إخراج زاهر سمير قصيباتي – سوريا
    سموكي أيز من إخراج علي علي – مصر
    رولينج من إخراج عمر الطاهر – الأردن
    عصفور كشاف من إخراج دوان القاوقجي – لبنان
    سكون من إخراج دينا ناصر – الأردن
    في قاعة الانتظار - معتصم طه – فلسطين
    حمل، خروف وغربان من إخراج أيمن حمو – المغرب
    سوكرانيا 59 من إخراج عبدالله الخطیب – فلسطين
    الحرش من إخراج فراس الطيبة – الأردن
    ملح البحر من إخراج ليلى بسمة – لبنان
    وذكرنا وأنثانا من إخراج أحمد اليسير – الأردن
    ليني أفريكو من إخراج مروان لبيب – تونس
    أن أندُرَ من إخراج إليو طربيه – لبنان
    الترعة من إخراج جاد شاهين – مصر
    طلب زواج - ناديا الخاطر – قطر
    الرحلة - هانية باخشوين – المملكة العربية السعودية

 
الأفلام الأجنبية:

    قضية الغريب من إخراج براندت أندرسن - الولايات المتحدة الأمريكية
    ملاحظات من عالم الخراف من إخراج كارا هولمز – أيرلندا
    الفتيات بخير من إخراج إتساسو أرانا – إسبانيا
    الحلم والموت من إخراج نيلسون يو – سنغافورة
    زوجي المسلم من إخراج دانييل بارنوي وألكسندرا ليزيتا بارنوي – رومانيا
    بانيل وأداما من إخراج راماتا-تولاي سي – السنغال
    التعامل مع الموتى الأحياء من إخراج ثيا هفيستندال – النرويج

 
موعد مع السينما الفرنسية العربية:

    أفلام روائية
    بنات ألفة من إخراج كوثر بن هنية – تونس
    كذب أبيض من إخراج أسماء المدير – المغرب
    الثلث الخالي من إخراج فوزي بنسعيدي – المغرب
    ما فوق الضريح من إخراج كريم بن صالح – الجزائر
    حتى لو ذهبت إلى القمر من إخراج لوران رودريغيز – فرنسا
 
   أفلام قصيرة
    فيلم قصير عن الأطفال من إخراج ابراهيم حنظل – فلسطين
    المفتاح من إخراج راكان مياسي – فلسطين
    حقبات من إخراج ملاك أبو حمدة – فلسطين
    ٣٣٥٠ كم من إخراج سارة القنطار – سوريا
    نوازي-لو-سيك
    باي باي بنز بنز من إخراج مأمون رطل بناني وجول روفيو – المغرب، فرنسا
    صوت الآخرين من إخراج فاطمة قاسي – فرنسا

إضاءة:

    باي باي طبريا من إخراج لينا سويلم - فلسطين
    باب الشمس، الرحيل والعودة من إخراج يسري نصر الله – مصر
    هجان من إخراج أبو بكر شوقي – مصر
    من المسافة صفر – 22 فيلم قصير – فلسطين



الأحد، فبراير 04، 2024

فيلم Mirror Mirror عندما يعكس الكون اضطرابك

 



  فيلم مثير، شيق، ستستمتع بغموضه وتفاصيله المدهشة؛ لكن ذلك ليس كل شيء. إنه فيلم أنصح بمشاهدته مَن يتعلم صناعة الأفلام بشكل عام، والفيلم القصير على وجه التحديد، أي لو كنت طالبًا تتطلع لصناعة مشروع تخرجك، أو هاويًا جادًا تزمع السير نحو تحقيق مشروعك السينمائي الأول.. شاهده.. صدقني أنت الرابح.



Mirror Mirror  هو فيلم دراما نفسية، يمكن أن نعتبره فيلم رعب أيضًا، ألا يتضح ذلك من اسمه الذي يتكرر فيه اسم (مرآة)؟ ألا تعد المرآة في الثقافة الغربية بوابة للأشباح والأرواح كما تعلمنا من أفلام الرعب والخرافات الأمريكية والأوروبية؟

  في أوروبا العصور الوسطى حيث كان يسود الجهل والخرافة، استخدمت المرآة للتنبؤ، كانت جزءًا من حرفة السحر الذي كان منبوذا محرمًا ومع ذلك كان منتشرًا وربما نقول رائجًا أيضًا، كانت العرَّافة تخبرك بمستقبلك بقراءة انعكاس صورتك في المرآة، يقال إن الصورة تعبر عن روح الشخص؛ فإذا كانت صورتك في المرآة شائهة فهذا معناه أن داخلك شريرًا وروحك سامة خبيثة مؤذية مهما بدت ملامحك في الحقيقة مهذبة مشذبة أنيقة، والعكس صحيح، أما إذا لم تظهر صورة الشخص في المرآة فذلك دليل على أنه مصاص دماء، فهؤلاء لا روح لهم على الإطلاق.



  للغرابة لن ترى مرآة في كامل الفيلم إلا في لقطة واحدة تُظهر البطلة خلال مرآة سيارتها، لكن المرآة رغم غيابها شبه الكلي، تحضر في الفيلم دائمًا مفهومًا، تستطيع أن تقول إن صانع الفيلم المخرج الألماني المولد (بيورن رومان Bjorn Ruhmann) قرر أن يؤدي دور العرافة الأوروبية القديمة؛ فهو يرى بكاميرته انعكاس وجه البطلة في هذه اللقطة اليتيمة، ثم يقضي باقي الفيلم محاولًا استكناه شخصيتها التي تتجسد في صورة البطل.

  قصة الفيلم قصة بسيطة، موقف عابر قد يمر به أي إنسان في أي مكان من العالم، على الرغْم من أن الفيلم يدور على طريق منعزل في لندن وفي ليلة شتوية، إلا أنني عن نفسي حدث معي موقف شبيه للغاية في وسط البلد، في القاهرة نهارًا وفي عز صيف مصر القائظ.

  امرأة متوسطة العمر، تبدو حسنة النية، تقود سيارتها ليلا عائدة من مكان ما، لا نعرف من أين لكننا نستطيع التخمين: بمظهرها الجاد هذا وفستانها البسيط وحذائها ذي الكعب العالي الذي تضعه على المقعد المجاور مما يعني أنها استبدلته توًا بحذاء عملي، هي فيما يبدو سيدة عملية من الطبقة المتوسطة العليا -إذا جاز هذا التصنيف- لأن رفاهية سيارتها تشي بأنها تملك دخلا جيدًا، وفستانها الأخضر البسيط المحتشم يخبرنا أنها ليست امرأة لاهية مثلا، عائدة من ملهى ليلي، أو أنها كانت في مواعدة غرامية لأن زينتها وتبرجها، ماكياجها المحايد يكشف جدية الشخصية، واعتيادية الموقف، كل هذه المعطيات تكوِّن ماضيًا معينا للشخصية يوحي أنها مثلا عائدة من عشاء عمل. في أثناء عودتها تردد خلف تسجيل صوتي عبارات تبدو أنها دروس أو تمارين نفسية: "ذراعاي مفتوحتان للعطاء واستقبال المتعة My arms are open to giving and receiving joy"، "في مركز كياني رغبة لا نهائية للحب At the center of my being is an infinite will of love"، "أنا جاهزة للطيبة والكون يعكس هذا مرة أخرى لي I'm ready to kindness and universe reflects that back to me"، ومع كلمة يعكس يبدأ الانعكاس في العمل.

هل نستخدم في مصر لفظًا مشتقًا من العكس للتعبير عن الكوارث التي تعرقل مسيرنا؟

نعم، العكوسات.

هذا تمامًا هو الحال في الفيلم، فما تقع البطلة في أسره ينطبق عليه تعبيرنا الشائع (عكوسات)، فجأة تجد أمامها سيارة تفر بعد أن يلقي قائدها شخصًا مسكينًا على قارعة الطريق، ربما تعرض للاعتداء أو حادثة ما، والسيدة (البطلة) تبدو عطوفة جدًا، ولا تتورع عن مد يد العون للفتى الذي وجدته، تأخذه معها في سيارتها لتوصله إلى أقرب مستشفى، لكن خلال الرحلة تكتشف أنه يضايقها بتكرار الكلام الذي تقوله، في البداية تتصور أنه مصاب بصدمة عصبية أو شيء من هذا القبيل، لكن تكراره للكلمات يتطور إلى استجابة حركية، تضغط زر الراديو فيضغطه محولًا المحطة أو التسجيل الموسيقي الذي ترغب الاستماع إليه ليشغل ذلك الصوت المسجل الذي كانت تسمعه عندما كانت منفردة مما يجعلها محرجة بعض الشيء، يظهر ذلك من تعبير وجهها الممتعض، تقول له "توقف"؛ فيمد يده إلى مقود السيارة فتضطر إلى إيقافها بعد أن يحرفها عن الطريق، تطلب منه المغادرة لكنه يستمر في مضايقتها كأنه شيطان صغير، دون أن تدري تضربه بفردة حذائها ذي الكعب العالي فتفقأ عينه.. تصاب السيدة بصدمة.. تصرخ، ويتحرك الفتى للخلف قليلًا فتصدمه سيارة في الاتجاه المقابل، تغلق باب سيارتها وتفر بها.. يترجل سائق العربة التي صدمته ليحاول إنقاذه، هنا نكتشف أن الفتى مازال حيًا وأنه بعين واحدة يبدأ موجة جديدة من تكرار الكلمات، فكأن القصة تعيد نفسها من البداية، في بناء دائري يشير إلى إمكانية تكرار هذه القصة وإلى امتدادها اللانهائي.

  كل شيء في بنية الفيلم ينبهنا إلى حضور المرآة كاستعارة.. مفهوم الانعكاس موضوعًا وليس شكلا.. من البداية ونحن نرى التترات نجد كلماتها منعكسة حول محور رأسي، كلمات المسجل الصوتي وتكرارها على لسان البطلة.. انعكاس. توظيف العدسة الأنامورفية (الضاغطة للصورة أفقيًا) Anamorphic lens والبريق الذي تصنعه حول مصدر الإضاءة والذي يشبه خطًا أفقيا يفصل البطلة وهي تنحني عن الشاب المتمدد بجروحه على الأرض.. هذا انعكاسٌ أيضًا، وهذه اللقطة مفتاح تفسير العمل، فالبطل فيما يبدو انعكاس مرآوي للبطلة، بوابة ترى من خلالها عالمها الباطني العميق، الجانب المظلم في نفس كل منا الذي وصفه فرويد بال(هو)، العقل الباطن الذي يحوي الدوافع الغريزية والعدوانية، ولنقل الطيش الصبياني الكامن في نفوسنا، هذه الصورة أو لنقل المسخ القرين الساكن بدواخلنا هو ما نحاول أن نكبته ونخفيه فندفعه في أعماق نفوسنا بعيدًا عن عالم الظاهر المغرق في المظاهر المهذبة المشذبة التي نرتديها كأقنعة نجابه بها العالم، وهو ما كانت البطلة تحاول تحقيقه عندما كانت في سيارتها تمارس تمرينا نفسيًا شفاهيًا قد يساعدها في نصرة الأنا العليا أو الSuper-Ego في حربها المستعرة ضد الهو لتحقيق التوازن النفسي والرضا المجتمعي، لكن ذلك الكامن المتربص بها يقع في طريقها ويوقفها فجأة لتصطحبه بكامل إرادتها إلى داخل سيارتها، بمجرد أن تغلق الباب ينكتم الصوت فأجدني من مقعد المشاهد أستحضر آية قرآنية تقول "كل نفس بما كسبت رهينة" كذلك هو محبسها ذلك حيث هي بكامل رقيها وأناقتها وطيبتها في ذلك الحيز الضيق مع ذلك الشخص الغريب الغامض.

  اختيار المؤديين للأدوار خدم تحقق الشخصيات إلى حد بعيد، المرأة بطولها وملامحها التي تدل على امرأة ناضجة قوية فيها من الطيبة ما يسمح بوقوعها في المأزق، وعندها من الشكيمة ما يسمح بخوضها الصراع حتى النهاية، الشاب الذي أدى الدور المقابل أيضًا كان اختياره صائبًا فهو شاب فيما يبدو في العشرينيات من العمر، لكن قصر قامته وهيئته توحيان بكونه صبي صغير مثير للشفقة يمكن لامرأة مثلها أن تتعامل معه بروح الأم، وفي نفس الوقت ملامح المراهق تسمح بتحوله فجأة إلى نَزِقٍ يحفز عوامل الضيق والحنق ويدفع الأحداث والمشاعر إلى التحول من التعاطف إلى الصدام.

  قال صانع العمل بيورن رومان في حديث منشور أنه كان محتارًا في تصور شخصية الشاب الذي يقع في طريق البطلة ويخترق وحدتها وسلامها النفسي الذي تحاول الحفاظ عليه، هل هو شخص بغيض واقعي، أم عفريت حقيقي جاءها من الجحيم، أو أنه تجسد لمخاوف البطلة التي ربما يشير ترديدها لعبارات توحي بالإيجابية والتوافق النفسي إلى اضطراب داخلها تحاول إخفاءه، فيكون الآخر هنا هو الجحيم ذاته، كأنه تمثيل للعبارة التي تقول: "الجحيم هو الأخرون" تلك العبارة التي قالها الفيلسوف الوجودي والأديب جان بول سارتر في مسرحيته (لا مخرج) والتي عرفناها في العربية باسم (لا مفر)، ظهور الفتى فجأة يعمل على جعل المرأة تكتشف الهوة العميقة أو الهوات داخل نفسها، فتحول المعرفة حياتها إلى جحيم حقيقي، وهنا نتذكر تقليدًا دراميًا قديمًا أشار له أرسطو منذ ما يقارب الألفين وأربعمائة عام وهو التعرف والتحول، البطلة المتقوقعة في عالمها المحدود تدرك فجأة وجود الآخر فتشق طريقًا إلى خارج قوقعتها تلك، تكتشف وجودًا آخر، انعكاسًا -ربما- لكل الأشياء البغيضة في أعماق نفسها. هذه المعرفة تحدث التحول الدرامي الأكبر في القصة/الفيلم، وأيضًا في حياة البطلة.

  بإحساس مرهف، وتعبير بليغ؛ استطاع صناع الفيلم توظيف مكان الحدث الذي كان طريقًا فرعيًا بعيدًا عن العمران، والزمان الذي بدا في ليلة شتوية، الإضاءة التي لم تعمد إلى المبالغة التعبيرية لكنها واصلت تحقيق نفسها بخفاء تام لتعطي أجواء قاتمة وفي نفس الوقت شديدة النعومة، أيضًا تراك الصوت الذي تدخل بتوظيف محكم للمؤثرات الصوتية بشكل واضح وحاسم في فصل الأجواء تمامًا بين داخل السيارة وخارجها.. كل شيء محسوب بدقة ليكثف ما يحصل عليه المشاهد من المعلومات والأحاسيس في حيز لا يتخطى الأحد عشرة دقيقة، مما يجعل الفيلم نموذجًا رائعًا للفيلم القصير ننصح بمشاهدته.

أحمد صلاح الدين طه
1 فبراير 2024

dedalum.info@gmail.com 

لمشاهدة فيلم mirror mirror اضغط هنا









Translate ترجم إلى أي لغة

بحث Search

عام جديد سعيد 2025

Dedalum New Year

ديدالوم

عام جديد سعيد مليء بالإبداع والفرح!

أرشيف المدونة الإلكترونية


شرفتنا بزيارتك أنت اليومَ الزائر رقم