تبدو السينما لنا إزاء عُمان مساحة مثيرة للدهشة؛ بلد مثل عمان بكل ما تشمله من تاريخ طويل للغاية لأرض استوطنها البشر منذ أمد يمتد إلى ثمانية آلاف عام، شهدت خلالها تطورًا للحياة. ظهرت وتسلطنت فيها ثقافات وحضارات، ممالك ولدت فيها وهجرات أمتها، طريق تجارة عالمية مر بها وغزاة طمعوا في خيراتها. أرض شديدة الثراء ومجتمعات متنوعة ومتآلفة بين الريف والحضر والبادية. سلام ودعة في الطبيعة الخلابة وسكانها، فورة هبت وثورات شبت من أجل طرد أطماع الأوروبيين وتأسيس دولة حديثة.. كل ذلك ولم نر سينما تضاهي هذا الزخْم الرائع رغم أن البلد مؤهلة للغاية لتكون لا أقول مصدرا للأفلام، بل مركزا لصناعة السينما في المنطقة.
لذلك نجد الترحيب بالتجارب السينمائية التي تأتينا من هذا البلد الطيب بين حين وآخر كإرهاصات نرجو أن تستمر وتجد دعما يثريها وتعاونًا يرتفع بها إلى مركزها الذي يليق لها والذي ما يزال منتظرها. من هذه التجارب أمتعنا فيلم الدروج وهو فيلم قصير لواحد من الناشطين ذوي الشغف بالسينما والقص ورعاية نشر الثقافة السينمائية من خلال الجمعية العمانية للسينما، وأخيرًأ أراد خوض مجال الإخراج من خلال الدراسة وليس الموهبة فقط فأم المدرسة العربية للسينما وتتلمذ على يد الرائدة الدكتورة منى الصبان، وهو (حُمَيد بن سعيد العامري) الذي كان هذا الفيلم مشروع تخرجه رغم أن خبراته السينمائية تتخطى فكرة المشروع.
الدروج هو اسم يبدو لنا غامضًا. كلمة باللهجة العمانية يبدو أنها مشتقة من لفظ (الدرج) وهي على ذلك تشير إلى تدرج ما، هل هو درج صاعد من الذات إلى الوجود أم هابط من الشخصية (المظهر) إلى أعماق النفس بأغوارها ومكامنها السحيقة الغامضة؛ يتركنا العنوان بذكاء مع التساؤل، بوابة أولى لسبر أغوار القصة تشير ولا تكشف المعنى.
اختار حميد العامري الذي هو أيضًا كاتب السيناريو أن يبني قصته متبعًا قواعد القصة القصيرة الكلاسيكية؛ فيقدم لنا لحظة كاشفة للماضي سابرة للمستقبل:
تذهب أم مع ابنها، الذي قدر له الله أن يكون من ضعاف السمع (لا نكتشف ذلك إلا في آخر الفيلم) إلى الشاطئ، حيث متسع للعب الصغير ولتأمل الأم لحالها والضغوطات التي تعانيها كأرملة بعد فقد الزوج، فمن جهة تجد من يحثها على الزواج لأنها ما تزال صغيرة، ومن جهة أخرى نجد حماتها تهددها تهديدًا قطعيًا بأخذ ابنها منها لو تزوجت، ومن ناحية ثالثة تصارع أمومتها التي تفرض عليها إحساسًا بالمسؤولية تجاه ابن يحتاج إليها في سنه هذا وحالته تلك، وأنوثتها التي تحتاج أن تكتشفها من خلال رفيق عمر افتقدت وجوده مبكرًا.
الحدث الدرامي الرئيس الذي خلق الدراما هو رحيل الأب الذي وقع قبل بداية الأحداث، خارج خط السرد الرئيس، وهو حدث قوي في المجمل لصنع دراما إجتماعية مؤثرة، ويمكننا أن نتذكر عددًا كبيرًا من الأفلام العظيمة التي بُنِيَت أحداثها على فعل درامي مماثل، على سبيل التوضيح وليس الحصر عندنا: فيلم (بابا أمين) ليوسف شاهين، و(بداية ونهاية) لصلاح أبوسيف، و(العار) لعلي عبدالخالق، و(سواق الأتوبيس) لعاطف الطيب، وغيرها الكثير مما يدل على أهمية الحدث وهو مصاب جلل بالنسبة لكل أسرة في مجتمعاتنا الشرقية التي يكون قيامها على أساس رعاية الأب، رب الأسرة وولي أفرادها المهيمن بإذنٍ رباني والمكلف بأمر إلهي. غيابه سواء بالموت أو الهجر أو التفريق القسري لأي سبب يؤذن بانهيار البنيان. أزمة للأم/الزوجة وتشريد للذرية إلا أن يُستبدل راعٍ براعٍ آخر لتستمر الحياة.
قوة الحدث الرئيس يتبعها قوة حدث آخر هو نقطة التحول في خط السرد، وهو غيابٌ آخر، غياب الابن الذي يأخذه اللعب إلى الاختفاء فتظن الأم أنه غرق في البحر. وبمعرفتها تلك تتحول حياتها إلى الشقاء، لكن يحد من أثر الشقاء أنه تحول من شقاء إلى شقاء وليس من نعيم إلى شقاء. الزوجة تعيش جحيم خواطرها أصلا فيكون فقدها للابن مجرد جحيم آخر، ويبدو أن صانع الفيلم كان قاسيًا إلى حد كبير في تصوره لحياة امرأة في مثل تلك الظروف، فرغم ما يبدو ظاهريًا من أن الفيلم يناقش معاناتها بحياد عقلاني إلا أنه آخر الأمر يحكم عليها بالجهل بمصير الابن وذلك عقاب قاس لأم، بينما يكون أكثر لطفًا مع المشاهدين فيعطينا أملًا عندما نرى الطفل لا يزال حيًا مختبئًا يلهو في مكان ما على نفس الشاطئ.
الأم وابنها هما الشخصيتان الرئيستان، محور الفيلم، يعرفنا صانعه بهما بشكل جيد لكنه يغفل إلى حد كبير عن إشباعنا بتفاصيل تلك العلاقة الخاصة بين الاثنين، تلك العلاقة التي يفترض أن تدفعنا للتعاطف مع الأم أو الخوف والقلق بشأن الصغير، نعرف على استحياء في آخر الأحداث كون الصغير من ضعاف السمع وهو ما بدا تداركًا من العامري لتبرير نقطة التحول لكننا لا نعايش مأساة الشخصية من البداية، نجد إشارات في الحوار وفي الأحداث الموازية (مشهدي الفلاش باك) إلى وجود إعاقة ما عند الصغير لكننا لا ندرك كنهها فمثلا إلقاؤه الكرة على فنجان الشاي أمام قريبة الأم، وكذلك كسر المزهرية في منزل الجدة، هذه أمور تقع ويمكن أن يأتي بها أي طفل في هذا السن دون أن يكون ذلك قضية تشغل الأسرة أو تحفز ردود أفعال مبالغ فيها كما نرى من تعبيرات الضيفة أوالجدة.
شخصية الأم أيضًا كانت تستوجب استحضار مزيد من تعاطف الجمهور، رغم الأداء الجيد للفنانة حبيبة الصلطية، لكن بناء الشخصية نفسه كان بحاجة لمزيد من النقاط القادرة على الغوص في نفوس المتلقين للنهل من مشاعرهم العميقة؛ فعلى سبيل المثال نحن نرى امرأة في سن النضج، قوية متماسكة، تتمتع بحياة رغم غياب الأب إلا أنها ليست منهارة فهي تعيش في مستوى اقتصادي جيد، تملك سيارة عائلية ولديها هاتف مناسب تتلقى عليه اتصالا من صديقة أو قريبة يعني إن لديها أصدقاء فهي لا تعاني الوحدة مثلًا، وتتمتع بعائلة تضمها ولابنها جدة تعرض عليها طواعية أن تربي الابن بدلًا منها (مثلما ربت أباه)، وهذه الجدة بدورها تعيش في منزل كبير يشي بطيب الحال. كل هذه العناصر تجعلنا نسأل أنفسنا: (ماذا لو؟):
ماذا لو جعل صانع الفيلم البطلة لا تزال مراهقة بأن تكون تزوجت في سن مبكر جدًا وترملت وهي بعد صغيرة جدًا، لها حاجاتها ومتطلباتها الغريزية التي لن يلومها عليها عاقل؟
ألم يكن ذلك سببًا وجيها لحفز تفاعل المتلقي مع الشخصية فتجد بعض التعاطف مع قلقها وانشغالها عن ابنها (فِلذة كبدها) بالتفكير في مستقبلها العاطفي؟!
ماذا لو عايشنا سعادتها وعلاقتها الخاصة القريبة بالابن مما يجعلها تستبعد أي احتمال للتخلي عنه وتعتبر فكرة إبعاده عنها مأساة تحاول الفرار منها؟
ماذا لو كانت تعاني الفقر والحاجة مما يضطرها إلى الزواج بآخر أو اللجوء إلى أهل الزوج لطلب المعونة فيكون ذلك سببًا لعمق المأساة؟
ماذا لو اطلعنا على ظلال حياتها مع زوجها الراحل، هل كانت تحبه؟ هل كان عطوفًا م قاسيًا معها؟ هل كان رحيله مأساة أم مجرد حدث عادي؟ ماذا لو عايشنا أزمتها كأنثى في مقتبل العمر لها حاجاتها النفسية والجسدية والاجتماعية التي ترفع قلقها وضيقها وتؤكد أزمتها؟
الفقرة السابقة كنت لا أود كتابتها، لأنني أفترض أننا كمتلقين ليس علينا أن نفرض رؤيتنا على رؤية صانع العمل، لكن يبقى أن الأفكار التي ترد على خواطرنا ونحن نشاهد العمل هي جزء من العمل ذاته، فقد حفزنا الفيلم على التفكير فيها وبالتالي من حق صانع الفيلم أن يعرفها لأنها امتداد لعمله نفسه، وهذا ما أصبح مصطلحًا عليه في العصر الذي نعيشه في جميع الفنون؛ عصر التلقي، حيث أدرك العالم أن الإبداع الفني لا يسير في خط مستقيم من منتجه إلى متلقيه، بل هو حلقة فيها طاقة مستمرة الحركة مترددة باستمرار لا يفنى. تبدو كما لو كانت انبعثت من الفنان، لكن الحقيقة أن الفنان نقطة على الدائرة التي تمتد إلى العمل الفني ثم إلى المتلقي، ولا بد أن يستمر اندفاع هذه الطاقة نحو المبدع مرة أخرى عبر النقد الذي يحافظ على توهج حلقة الإبداع وسط حلقات أخرى عديدة تشكل الكون الحي بثقافاته المتألقة.
قدم لنا مدير التصوير محمد العجمي بالتعاون مع المخرج صورًا رائعة تكشف عن جمال الطبيعة في عمان خاصة في لقطات الطائرة (الدرون) الواسعة للشاطئ والبحر، وكانت الكاميرا دائمًا موضوعية تراقب الأحداث ولا تتبنى وجهة نظر الشخصيات. أحيانًا حاول المصور التفاعل مع الحدث من خلال حركة الكاميرا المحمولة للحاق بالأم المكلومة وهي تبحث عن ابنها الغائب. أما من حيث الإضاءة فقد كانت موضوعية واقعية محايدة تمامًا، وهو أمر معتاد في تناول الدراما الاجتماعية رغم أن هذا الأسلوب لا يسمح لمدير التصوير باستعراض مهاراته، لكنه أسلوب يسمح بإفساح المجال للتركيز أكثر على الموضوع.
الموسيقى رغم أنها ليست مؤلفة خصيصًا للفيلم، لكنها جاءت إلى حد كبير متوائمة مع المشاهد وإن كنا أيضًا نتصور لو أنها موسيقى أكثر ارتباطًا بالبيئة المحلية لكانت أقوى وأبعد تأثيرًا، كما أنها ستضفي طابعًا من الأصالة الفنية.
قد يمكننا التغاضي مع قوة الموضوع عن بعض الهنات التقنية في الصوت والتي انكشفت عند القطع أحيانًا كما في مشهد لقاء البطلة مع قريبتها، لكنها نقطة مهمة، لأنها تعكر صفو المشاهد وتخرجه من الاندماج مع واقعية المشهد.
حرص المخرج على أن يكون عمله أكاديميًا يسير كما يقول الكتاب بحذافيره، وهو حرص نتفهمه في مشاريع التخرج، لكن ذلك غالبًا يخفض تألق الروح الإنسانية المبدعة خلف العمل الفني وهي عنصر لا يمكن التغاضي عن أهميته في الإبداع الفني، ومع ذلك لم يمنعنا الحرص على الصنعة من اكتشاف تلك الروح الفنية المتوثبة للإبداع والموهبة التي تعلن عن نفسها لدى سعيد حميد العامري وفريق المبدعين الذين شاركوه صناعة العمل الذي نراه إراهاصًا بكشوف فنية قادمة تأتينا من الخبيئة العمانية التي لم تكشف عن كنوزها الدفينة بعد.
أحمد صلاح الدين طه
الثلاثاء 10 ديسمبر 2024
dedalum.info@gmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق