الرجل الذي لم يستطع أن يظل صامتًا
The Man Who Could Not Remain Silent 2024
هذا فيلم قصير آخر معبأ بالتفاصيل والحكايات التي لم يحكِها على الإطلاق.
عندما نتحدث عن أهمية انفتاح الفيلم القصير وفراغاته السردية قد يكون هذا الفيلم نموذجًا مهما للغاية، كيف استطاع أن يروي كل تلك القصص، ويغرقنا في مشاعر الرفض والقبول والترقب والخزي والبلادة.. تفاعلٌ وانفعال، ومع ذلك لم يعرضها لنا، بل لم يتعرض لها، إنه تركنا نتعرف عليها من خلال الإشارات، والطَرْق المستمر على أبواب ذاكرتنا، والمراهنة على أن المشاهد (حتى أولئك الذين لم يعاصروا تلك الأحداث وربما لم يسمعوا عنها، الذين ربما ولدوا بعد انقضاء هذا التاريخ وتخطوا العشرين عامًا أو الثلاثين) الكل سيخرج من الفيلم ليبحث ويكتشف ويعرف ويفهم حيث يتمدد الفيلم بسلطان إشاراته وتشعب سرده إلى ما قبل لقطته الأولى ونحو ما بعد نهايته المفتوحة.
يتناول الفيلم فترة سوداء في تاريخ الإنسانية وليس في تاريخ أوروبا فقط، إنها المذابح البشعة وحرب التطهير العرقي والإبادة الجماعية التي تعرض لها المسلمون البوسنيون في حرب البوسنة والهرسك (1992-1995)، حرب هزت ضمير الإنسانية التي وقفت كالعادة تتفرج دون تدخل سوى الإدانة وإبداء الغضب تمامًا مثلما يحدث اليوم إزاء غزة، وكأن العبارة التقليدية التي تقول "ما أشبه الليلة بالبارحة" تلخص دورة الزمن وبلادة ردود الأفعال واستفحال الإجرام.
وُصفت هذه الحرب بأنها حرب قروسطية، في إشارة مرجعية إلى الإبادة والتعذيب الممنهج الذي تم على يد محاكم التفتيش التي نصبتها الكنيسة في أوروبا في القرون الوسطى، وربما بصورة إن لم تضاهها بشاعة فقد زادت عنها.
ممارسات الصرب كانت وحشية تجاه المسلمين الأوروبيين الذين وقعوا في الفخ وسلموا أسلحتهم تحت دعاوى الهدنة والسلام ثم مال عليهم أعداؤهم مَيْلَة واحدة فعزلوا الرجال في معسكرات جماعية. تم تعذيبهم وإعدامهم وإلقاؤهم في مقابر جماعية بأعداد لم يتمكن أحد من إحصائها بشكل كامل، لكن بعض التقديرات تشير إلى وصولها إلى مائتي ألف شهيد. وفي جهة أخرى عُزلت النساء وتعرضن لعمليات تعذيب ممنهج هن أيضًا تضمن التجويع والاغتصاب، بل واحتجاز المغتصبات تسعة أشهر حتى تضعن أبناء يحملون الجينات الصربية. تفكير شيطاني لا يمكن تصوره ورغم ذلك كان واقعًا، وربما ليس غريبًا على قارة أنجبت يومًا كاليجولا ونيرون وإيفان الرهيب وهتلر وستالين وموسوليني وسلوبودان ميلوشوفيتش سفاح الصرب، هذه القارة التي استغلت كل المرجعيات سواء الدينية أو الفلسفية أو العلمية المعملية لإثبات السيادة لعنصرها على العالم.
فيلمنا الذي نتناوله والذي أحيا في ذاكرتنا هذه الأيام الممتدة لم يحكِ ما حدث وإلا احتاج ساعات طويلة لكنه (متبعًا القاعدة الأصيلة في كتابة القصة القصيرة والتي ورثها عنها الفيلم القصير حيث اختيار لحظة شديدة التميز كاشفة للماضي والحاضر والمستقبل) ركز على واقعة واحدة وهي مذبحة (شتربتشي) التي قامت بها ميليشيا عسكرية صربية، تناول الفيلم شخصية واحدة ضمن التسعة عشر الذين تم تعذيبهم وقتلهم وإخفاء جثثهم التي يقال إنها ألقيت في النهر ولم يُعثر على أي منها حتى اليوم، والشخصية هو تومو بوزوف، الرجل الذي لم يستطع أن يبقى صامتًا.
يبدأ الفيلم وينتهي في لحظة زمانية وحيز مكاني محدودين للغاية، في كابينة ضيقة بإحدى عربات قطار يجتمع فيها أشخاص متنوعو الأعمار: رجل ربما في الأربعين وإلى جواره فتاة مراهقة وطفلة صغيرة ربما كانتا ابنتيه. شاب صغير السن ربما في أوائل العشرينيات وعجوز طاعن في السن وأخيرًا كهل ربما في أواخر الأربعينيات أو الخمسينيات يتجاهله السرد حتى قُبيل نهاية الفيلم بقليل رغم أننا نكتشف آخر الأمر أنه هو البطل الحقيقي للفيلم، الرجل الذي يشير إليه العنوان، لكن ربما كنوع من التعبير المجازي يظل غير مشارك وشبه مختفٍ حتى ما قبل النهاية بقليل؛ فكما يقول العنوان إنه لم يستطع أن يبقى صامتًا ومعنى ذلك أنه كان صامتًا، لكنه إزاء الإجرام الذي يراه لم يتمكن من الاستمرار على حالة السكون التي كان عليها.
استخدم صانع الفيلم -على حد تعبيره هو نفسه في أحد لقاءاته- تقنية البطل المزيف، حيث يشد الانتباه لشخص معين يتصور جميع المشاهدين أنه هو البطل، لكن المفارقة تأتي آخرَ الأمر عند ظهور البطل الحقيقي معبرًا عن ذاته حيث يضحي بنفسه في سبيل آخر لم يكن يعرفه على الإطلاق. الفيلم هنا يروي الأحداث من وجهة نظر الشهود وليس البطل نفسه.
عن طريق نص مكتوب على الشاشة تم إهداء الفيلم إلى ذكرى البطل تومو بوزوف، وهي إحالة مباشرة تحملنا إلى البحث عن هذه الشخصية الغامضة التي لم يهتم أحد في سرديات ما بعد الحرب بذكرها، فهو كرواتي مسيحي كان ضابطًا سابقًا في الجيش الاتحادي، وعاش معظم حياته في صربيا، لكنه عندما بدأ يشعر بأن هناك حربًا أهلية على وشك الوقوع قرر أن يتقاعد عن الخدمة اختياريًا لأنه لم يتصور يومًا بعدما كانت مهمته الدفاع عن وطنه أن يضطر لحمل السلاح في وجه أبناء جلدته وأصدقائه وجيرانه. ترك الخدمة قبل عام واحد من اندلاع الحرب، وبذلك نظر له الكروات كخائن لأنه يعيش في صربيا ونظر له الصرب أيضًا كخائن لأنه ترك الجيش قبل الحرب مباشرة أما بالنسبة للمسلمين فلم يكن منتظرًا الاهتمام به لأن لديهم عشرات الآلاف من الضحايا المسلمين والأولوية طبعًا لضحاياهم الذين لم يكن هو منهم لكنه كان دون شك معهم؛ عُذّب وقُتل وأُخفِيَ من الوجود بالطريقة نفسها لأنه -فقط- لم يستطع أن يظل صامتًا.
القصة الحقيقية التي ارتكز عليها الفيلم كمرجعية تاريخية هي واقعة إيقاف قطار من قبل مسلحين صرب، ميليشيا مدعومة من الجيش الصربي لكنها غير رسمية، ليست -نظاميًا- إحدى فِرَق الجيش رغم حمل منتسبيها رتبًا عسكرية أثناء الحرب.
قام هؤلاء بإخراج ثمانية عشر رجلا مسلمًا -غير مسلحين ولا إدانات جنائية أو غير جنائية ضدهم- من القطار، وكان التاسع عشر هو بطلنا الذي استاء من هذا التصرف، فهو ضابط سابق في جيش نظامي وابنه كان قد التحق مؤخرًا بالخدمة العسكرية في نفس الجيش، وكان بوزوف الأب في طريقه لزيارة ابنه، وهو ربما ما جعله يتعاطف مع شاب في نفس عمر ابنه يجلس إلى جواره في كابينة القطار وكان المسلحون على وشك سحبه إلى الخارج حيث لم يكن معه أي وثائق هوية (ربما بالمصادفة لأنه لم يتوقع مثل هذا التفتيش المفاجئ وغير المعتاد)، لم يكن الشاب مسلمًا، هو فقط لم يتمكن من إثبات هويته الدينية.. انبرى الضابط السابق والأب بوزوف دفاعًا عن الشاب فما كان من المسلحين إلا أن أخذوه ليختفي بعد ذلك إلى الأبد.
اعتمد صانع الفيلم نيبويشا سلييبسيفيتش Nebojša Slijepčević فتْح السرد على التاريخ من خلال قصة الحرب في البوسنة والهرسك والواقعة التي حدثت -تقريبًا- في زمن متوسط من هذه الحرب (حوالي عام 1993) والبطل الذي تم إحياء ذكراه مؤخرًا عندما استطاعت زوجته الحصول على موافقة بوضع لوحة تذكارية باسمه بجوار المبنى السكني الذي عاش فيه، حيث ظهرت قصته المنسية والتي بدا أنها تستحق أن تروى لما فيها من الكشف عن الماضي وأثره في الحاضر والمستقبل.
نقاط تشعع عديدة حققت انفتاح السرد من خلال:
العنوان (الرجل الذي لم يستطع البقاء صامتًا)، هذا العنوان الطويل نسبيًا يتضمن الإشارة إلى ثلاثة محاور هي: الرجل (البطل) والشروع في الكلام أو النطق أخيرًا، وهو أمر لا يرد مباشرة في الكلام لكنه يفهم مجازًا، وأخيرًا الصمت؛ تلك الحالة التي يجملها العنوان ثم يتم تفصيلها بصريًا من خلال الشخصيات المجتمعة في كابينة القطار، فالصمت ليس نوعًا واحدًا؛ فهناك صمت العجز الذي يمثله الرجل المسنّ، وصمت الخوف الذي يمثله البطل المزيف الذي شرع في المواجهة مع الجنود لكنه إزاء صرامة القائد يتراجع ويصمت رغمًا عنه. أيضًا هناك حالة البلادة من المراهقة التي لا يشغلها الأمر برمته، بل إنها طوال الأحداث لم تنزع سماعات الرأس عن أذنيها أو تهتم بمتابعة الموقف على الإطلاق كما لو كانت مغيبة تمامًا تحت تأثير الموسيقى التي تنصت إليها، إنه نوع من الصمت ناجم عن غياب الوعي، أما الطفلة الصغيرة التي لا تدرك أصلًا ما يحدث فهي تمثل صمتًا ناجمًا عن الجهل، فهي لا تكاد تعرف ما يدور حولها.
جميع حالات الصمت المذكورة هنا (من وجهة نظر صانع الفيلم) هي نوع من التواطؤ مع الإجرام، وهي تحقق التباين الذي يجعل موقف البطل الحقيقي أخيرًا شديد السطوع؛ فرغم كل هذا التواطؤ يهب أخيرًا أحد المتواطئين، الصامتين، ليقرر أن يفتح فمه ويواجه مصيره أيًا ما يكون.
ينفتح الفيلم بصريًا حيث يخاطب صانع الفيلم ذاكرة المتلقي لتزويده بمعان ومواقف ومفاهيم لا يحتاج السرد للإسهاب في ذكرها كي لا يتخطى زمن الفيلم المحدود، فكابينة القطار المغلقة تحيلنا لمشاعر الضيق وعدم الراحة والاحتجاز ونقص فرص الهروب، والقطار نفسه يحقق فكرة الرحلة التي تمثل الحياة نفسها (تخيل لو لم تكن الأحداث تدور في قطار أو أن تكون عربة القطار مفتوحة وليست في شكل كبائن صغيرة، لكان السرد البصري قد فقد الكثير من دلاليته). أيضًا، إكسسوارات بسيطة مثل ملابس الجد العجوز أو سماعات الرأس للمراهقة أو الجريدة وكوب القهوة والنظارة للبطل، كل ذلك يعطينا معلومات عن كل شخصية دون الحاجة لذكرها على الإطلاق. حتى حركة الكاميرا الدائرية داخل الكابينة الضيقة آخر الفيلم، واللقطات القريبة الكثيفة التي توحي بالعزلة، والظلام الذي يفتتح الفيلم ويختتم به، كل ذلك ساعد على تحقيق عنصر التركيز حيث كل لقطة وحركة كاميرا وإضاءة وقطعة إكسسوار مشبعة بعلامات عديدة تختصر كثيرًا من المعلومات.
بنية السرد الدائرية التي تبدأ من الظلام وتنتهي إليه تحيل المتلقي إلى فكرة التكرار والوِحدِيَّة التي يمثلها الفيلم حيث يمثل جزيئًا ضمن جزيئات أخرى تمثلها الحياة أو الحرب أو حياة الإنسان في ظل الحرب.
الصوت أيضًا وظف بمهارة لتحقيق إحالات عديدة تحقق انفتاح الفيلم، فلا تحده بحدود المذكور فيه صراحة، ولا تقصر الحدث نفسه على تلك الكابينة الضيقة.
من خلال الحوار المقتصب غير المباشر نعرف أي حرب تلك وما ظروفها؛ فمثلا، سؤال الرجل في الكابينة للشاب القلق عندما يعلم أنه لا يحمل أوراق هوية: "ما اسمك" فالاسم هنا يفرق كثيرًا، كذلك يسأل الضابط المسافرين: "من شفيعك؟ من هو القديس الراعي لعائلتك؟"، و عندما يجيبه الأول: "مار جرجس"، يتمنى له رحلة سعيدة، أما الآخر عندما يتردد في الإجابة، يبادره الضابط بلهجة اتهامية باردة: "ربما محمد!"، أما البطل (بوزوف) عندما يقف مدافعًا عن القيم، يبادره المسلح باتهام حاسم: "هل أنت من محبي المسلمين؟!".
إذًا عرفنا الحرب وعرفنا ظروفها وأطراف الصراع دون أن يعرض الفيلم لنا أي مشاهد مباشرة.
الصوت أيضًا يساعدنا كثيرًا للخروج من الكابينة وتصور ما لا نراه، فالفيلم يُفتتح ويُنهي بظلام تام لكننا من خلال تراك الصوت فقط نسمع صوت عجلات القطار لندرك أننا في قطار وأن القطار يتحرك وأنه وقف فجأة، وكذلك في آخر الفيلم نعرف أن القطار تحرك وأنه لن ينتظر عودة من غادروه حتى لو كانت متعلقاتهم ما تزال باقية في مكانها.
لم يستخدم صانع الفيلم أي موسيقى تصويرية ومع ذلك كان عنصر الصوت حاسما ومعبرًا حيث واقعية الأصوات التي نسمعها غالبًا من خارج الكادر تساعدنا بقوة على بناء صور عديدة من خلال الخيال عما يحدث أو عن مشاعر الشخصيات الداخلية التي لا يمكن تصويرها.
فيلم The Man Who Could Not Remain Silent هو واحد من تلك الأفلام التي تستحق المشاهدة لبنيتها المحكمة، وللإجادة الفائقة لجميع عناصرها سواء في التصوير أو المونتاج أو الأداء التمثيلي لجميع الممثلين وقبل ذلك اختيار كل شخصية ووضعها في محلها تمامًا بملامحها وصوتها وهيأتها، وقبل كل شيء الموضوع الإنساني الذي يحرك الذاكرة والعواطف ويطرح قضية شديدة الأهمية بلطف شديد، ولن تغادر ذاكرتي صورة الطفلة المتعلقة بنافذة القطار هاتفة باسم شخص ربما كان أباها الذي نعرف الآن جميعًا أنه لم يعد لها على الإطلاق، ولقطة جريدة البطل ونظارته وقهوته التي لن يكملها.. البطل تومو بوزوف الذي لم يحارب في هذه الحرب رغم انتمائه للجيش، ولم يكن مسلمًا لكنه مات مع المسلمين لأنه أدرك في اللحظة الأخيرة أن إنسانيته تستحق أن يتكلم أخيرًا ولو كانت تلك كلمته الأخيرة.
أحمد صلاح الدين طه
23 أغسطس 2025

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق