جيبارا، كوبا - أعلن مهرجان جيبارا الدولي للسينما الفقيرة (FICGIBARA) عن تفاصيل وشروط مسابقته الرسمية للدورة العشرين المرتقبة، والتي ستُقام في الفترة من 14 إلى 18 أبريل 2026. ويُرسخ المهرجان، الذي أسسه المخرج الكوبي الراحل هومبرتو سولاس، مكانته كملتقى عالمي متعدد الثقافات يرفع لواء "السينما الفقيرة"، مؤكداً أن الإبداع لا يعرف حدوداً مادية أو جغرافية.
مدينة جيبارا: حيث يلتقي التاريخ بالسينما
يستضيف المهرجان في كل عام مدينة جيبارا الساحلية الساحرة في مقاطعة هولغوين، والتي تُعرف بلقب "القرية البيضاء لسرطان البحر" (Villa Blanca de los Cangrejos).
أهم خصائص مدينة جيبارا:
الأهمية التاريخية: تُعد جيبارا موقعاً ذا أهمية تاريخية كبرى، حيث يُعتقد أنها كانت نقطة أول لقاء شامل لكريستوفر كولومبوس مع السكان الأصليين في كوبا عند "ريو دي ماريس" (نهر البحار).
الطابع المعماري والثقافي: تأسست المدينة رسمياً عام 1817، وازدهرت خلال القرن التاسع عشر كمركز تجاري وميناء مزدهر، مما أكسبها طابعاً كوزموبوليتانياً غنياً وساهم في بناء تراث معماري عريق ومسارح فخمة.
هوية الضيافة: حافظت المدينة على شعورها العميق بـ "كرم الضيافة"، لتتحول إلى مسرح مثالي للسينما المستقلة التي تحتفي بالجذور الإنسانية رغم التحديات.
شروط ومواعيد المشاركة الدولية (الدورة العشرون 2026)
يؤكد المهرجان على طابعه الدولي، حيث يحق للأعمال من أي جنسية (cualquier nacionalidad) المشاركة في المسابقة الرسمية.
1. فئات المسابقة الرئيسية والأفلام المؤهلة:
تستقبل المسابقة الأعمال التي تم الانتهاء من إنتاجها بين عام 2024 وتاريخ إغلاق الدعوة. وتتنافس الأعمال على جوائز لوسيا (Premios Lucía) المرموقة ضمن الفئات التالية:
الأفلام الروائية الطويلة (Largometrajes de ficción).
الأفلام الروائية القصيرة (Cortometrajes de ficción).
الأفلام الوثائقية الطويلة (Largometrajes documentales).
الأفلام الوثائقية القصيرة (Cortometrajes documentales).
أفلام الرسوم المتحركة والسمعية البصرية التجريبية (Animación y audiovisual experimental).
2. متطلبات اللغة والترجمة:
يجب تقديم الأعمال بلغتها الأصلية.
يجب أن تكون جميع الأفلام، بغض النظر عن لغتها الأصلية، مصحوبة بترجمة مكتوبة (Subtítulos) باللغة الإسبانية.
3. المواعيد النهائية ورسوم التسجيل:
فتح باب القبول: 6 أكتوبر 2025.
الموعد النهائي لتقديم الأعمال: 5 يناير 2026.
رسوم تسجيل الأفلام القصيرة والمتوسطة (أقل من 60 دقيقة) - دولي: 15 دولار أمريكي (USD).
رسوم تسجيل الأفلام الطويلة (60 دقيقة فأكثر) - دولي: 30 دولار أمريكي (USD).
ملاحظة: تتوفر رسوم تسجيل مخفضة للمشاركين من كوبا والمقيمين فيها (بالعملة المحلية CUP).
4. المسابقات والأقسام الملحقة:
إلى جانب الجوائز الرسمية، يتضمن المهرجان أقساماً تنافسية موازية سيعلن عن شروطها قريباً:
السينما قيد الإنشاء (Cine en Construcción): قسم مخصص لدعم المشاريع السينمائية التي لا تزال في مراحلها النهائية.
فاكتوريا السينما الفقيرة (Factoría del Cine Pobre): وهي مبادرة جديدة تهدف إلى تحفيز الإنتاج السمعي البصري في مقاطعات كوبا الشرقية عبر مساحات للـ "Pitching" والدعم المالي لمشاريع المنتجين والمخرجين.
الجوائز الكولاترالية (Premios colaterales): جوائز إضافية ومكافآت تُمنح من قبل مؤسسات وهيئات فنية وثقافية مختلفة.
كيفية المشاركة:
يتعين على جميع المهتمين بالمشاركة في المسابقة الرسمية إكمال استمارة التسجيل عبر الإنترنت.
مراكش، 20 أكتوبر 2025 - تخليداً لذكرى "المسيرة الخضراء المظفرة" (المسيرة السلمية التي أطلقها المغرب عام 1975 لاسترجاع أقاليمه الجنوبية)، أعلنت إدارة مهرجان مراكش الدولي للفيلم القصير جداً عن تنظيم الدورة الثامنة للمهرجان خلال الفترة الممتدة من 5 إلى 8 نوفمبر 2025، بمشاركة دولية وعربية واسعة.
وتشهد الدورة المرتقبة مشاركة 21 فيلماً قصيراً جداً من دول عربية، أوروبية، إفريقية وآسيوية. ومن المقرر أن تتنافس 13 فيلماً منها ضمن المسابقة الرسمية للمهرجان على أربع جوائز رئيسية، هي: الجائزة الكبرى، جائزة أحسن إخراج، جائزة أحسن سيناريو، وجائزة أفضل تصوير، والتي تقدمها مؤسسة "أوروب-أطلس" (Europe-atlas). بينما ستُعرض ثمانية أفلام أخرى ضمن فقرة "البانوراما" غير التنافسية.
لجنة تحكيم ذات خبرة للإشراف على تقييم الأفلام المشاركة في المسابقة الرسمية، اختارت إدارة المهرجان لجنة تحكيم متخصصة تتكون من:
المخرج السينمائي جمال بلمجدوب (رئيساً من المغرب).
الباحث والناقد السينمائي عبد الرحمان عباس (عضواً من العراق).
المخرج السينمائي لطفي أيت جاوي (عضواً من المغرب).
الممثلة Chatherine Godefroid (عضواً من بلجيكا).
المخرج السينمائي محمد تابت (عضواً من تونس).
فعاليات موازية للتكوين والثقافة يولي المهرجان أهمية خاصة لجانب التكوين ونشر الثقافة السينمائية، ولهذا سيتم تنظيم ورشات تكوينية طوال أيام المهرجان تستهدف الشباب المهتم بالمهن السينمائية، ومنها:
ورشة "تقنيات كتابة السيناريو" التي يؤطرها السيناريست محمد الحبيب أحمدان.
ورشة "الصوت" التي تؤطرها الفنانة سناء فاضل.
كما تستضيف هذه الدورة ندوة فكرية تحت عنوان (السينما والرواية)، بمشاركة نخبة من النقاد والباحثين وهم:
الناقد والباحث السينمائي الأستاذ عبد الرحمان عباس من العراق.
الباحث الدكتور الحسين أيت امبارك من المغرب.
المخرج عماد الوسلاتي من تونس.
الباحث والناقد إدريس كسرى من المغرب.
وسيتم خلال الندوة توقيع كتاب (السينما والرواية) لمؤلفه الناقد والباحث السينمائي عباس عبد الرحمان.
ويشمل برنامج الافتتاح لقاءً مفتوحاً مع الضيف الكبير للمهرجان، المخرج الصيني Sebastien Kong، مخرج فيلم "Hors du Temps" (خارج الزمن). وتتضمن فعاليات الدورة أيضاً لقاءات تواصلية مع مجموعة من الفنانين الشباب والجمهور المهتم بالشأن السينمائي.
قائمة الأفلام المشاركة في مهرجان مراكش الدولي للفيلم القصير جداً (الدورة الثامنة):
"Hors du Temps" (خارج الزمن)، إخراج: Sebastien Kong، البلد: الصين، نوع المشاركة: فيلم افتتاح.
"ثقافة وربيع"، إخراج: أحمد سلمان، البلد: العراق، نوع المشاركة: رسمية.
"حياة أخرى"، إخراج: عمر قلو، البلد: المغرب، نوع المشاركة: رسمية.
"Les plaques"، إخراج: Patrice Guillain، البلد: فرنسا، نوع المشاركة: رسمية.
ليس فيلم رعب، بل فيلم عن عالم مخيف.. مخيف أكثر من أفلام الرعب، فأفلام الرعب تقع بين دفتي البداية والنهاية، كل ما فيها من قلق وخوف ومطاردات.. من أرواح شريرة وعوالم غامضة، كل ذلك ينتهي مع كلمة النهاية حتى لو استمر قلبك يخفق وأطرافك ترتجف بعد الخروج من قاعة العرض، آخر الأمر مع ساندويتش شاورمة وكوب عصير معتبر ستنسى كل الرعب، لكن هذا الفيلم سيظل يؤرقك لأنه عن الواقع، عن قصص الحب.. قصص الحب الواقعية التي تستحق أن تموت..أبدًا.
يدور الفيلم حول شاب يقع في حب دافئ وعميق مع فتاة بريئة رقيقة من سكان قريته في منطقة ما من أوربا في عصر قديم، هذا الشاب على استعداد لفعل المستحيل من أجل فقط أن يستطيع شراء خاتم زواج باهظ الثمن ليتمكن من التقدم لمحبوبته، لكنه فقير يعمل كمساعد لأحد الحانوتية، الحانوتي رجل حكيم وأمين، منحته مهنته في دفن الموتى ثقلًا في الحكم ووزن الأمور بما تستحق، والأمور كلها لا تستحق لأن مآلها إلى زوال مثل أبدان البشر التي يتم تكليفه كل يوم بمواراتها التراب.
الشاب المحب لم يكتسب وعي معلمه العجوز، إنه بنزق وثقة صغار السن يعترض على الحكمة في دفن متعلقات الموتى الثمينة معهم "إنه إهدار للموارد"، هذا ما يقوله الشاب، لكن معلمه يؤنبه بل يوبخه ويذكره: "نحن لا نستولي على متعلقات الموتى"، يقول الشاب: "لا أحد يرانا"، فيجيبه العجوز: "هناك الله يرانا من علٍ، وهنا هم أيضًا (يشير إلى تابوت أحد المتوفين حديثًا) وأنا أخاف منهم أكثر".
تحول عميق في حياة الشاب، يحدث عندما يفكر في سلب فتاة مقتولة مقتنياتها، إنها فتاة عانت الحب أيضًا، الحب القاتل المميت، حب انتهى بها جثة منبوذة من الجميع وفي إصبعها خاتم ثمين رآه الجميع ملعونا واعتبره الشاب أداة لنجاة حبه الحي؛ تحول تراجيدي ومرعب وفنتازي، ينتهي إلى خاتمة تحمل الحزن والأسى بقدر ما يتأجج في نفس المشاهد من مشاعر التعاطف والرفض.
أدب سينمائي:
عندما تشاهد الفيلم ستدرك معنى أن يكون هناك تضافر محكم بين فني السينما والأدب، هذا فيلم يأخذنا إلى سرد سينمائي تصبح فيه اللغة بمفهومها الأصلي، وهي هنا الإنجليزية، متمازجة مع تعبير بصري وصوتي أخاذ، كلاهما قوي، وكلاهما يدعمان بعضهما ويصنعان مع التعبيرات اللغوية (في تعليق السارد والحوار) عملًا أصيلًا يستحق المشاهدة والتأمل، ولذلك اعتبرت أنه من الملائم أن أطلق عليه تعبير (أدب سينمائي).
تمدنا اللغة الإنجليزية (في الفيلم) بكم لا يستهان به من الإحالات اللغوية والحكم البليغة الموجزة التي قد تجعل من الفيلم لاحقًا ذخيرة لمن يحبون اقتباس المقاطع والأقوال التي يمكن أن تطابق أي زمان ومكان. بداية من العنوان: (حتى يفرقنا الموت) هذه العبارة الأيقونية التي تتردد بمختلف اللغات وفي مختلف الثقافات شاهدة بمعاني الإخلاص، عبارة أثيرة تردد مفاهيم إيجابية عن المحبة الأبدية، مما جعلها عنوانًا لكثير من الأفلام، وحتى يختارها المقبلون على الزواج عنوانًا لفيديوهات حفل زفافهم، والأمثلة على الإنترنت لا حصر لها، لكن نفس العبارة تكتسب هنا معاني مغايرة، بل مناقضة لما اعتدناها معبرة عنه (وتلك خاصية شعرية يطلق عليها بعض نقاد الأدب "كسر الاعتياد اللغوي") فبدلًا من أن تعبر عن الحب الأبدي، صارت عنوانًا لقصة حب كتب عليها الموت حتى قبل أن تبدأ.
قس على ذلك الكثير من الجمل الحوارية التي نكتفي منها هنا بعبارة بليغة تقولها السيدة العجوز للشاب الذي يصف محبوبته بتعبير إنجليزي شائع يعبر به عن قيمة محبوبته الغالية في نفسه، فتجيبه المرأة بنظرة حزينة حكيمة: "الحب يكلف أكثر كثيرًا من المال، إنه يكلفك كل شيء أيها الشاب".
البنية السردية والانفتاح وفراغات السرد:
على أساس الحبكة القصصية التقليدية تم بناء الفيلم، حبكة ثلاثية الفصول؛ الفصل الأول مقدمة تعرض الشخصيات والبيئة الزمانية والمكانية، والثاني يمثل المواجهة والثالث يمثل قمة الصراع، ثم الحل النهائي. بناء شبيه بأي فيلم طويل تقليدي، لكنه منضغط زمنيًا:
أولًا: بنية السيناريو منغلقة، ببداية القصة الواضحة ونهايتها الحاسمة التي تكشف عن الحكمة الأخلاقية من الفيلم: "هناك قصص حب بائسة، مدمرة؛ يجب أن تبقى ميتة".
ثانيًا: تتعدد المحاور السردية التي تمتد من نقطة البداية إلى النهاية؛ هناك محور سرد رئيس يمثل صراع الشاب من أجل الحصول على خاتم زواج باهظ الثمن لتقديمه للفتاة التي يحبها، وهناك الفتاة التي تظهر في المشهد الثاني من الفيلم، وفي هيئة شبح بعد منتصف الفيلم في نقطة تحول درامي، ثم نراها في مشهد التعرف الأخير(أي أن وجودها يمتد كمحور سردي فرعي من البداية للنهاية)، وهناك أيضًا الجملة التي يتلوها السارد في مفتتح الفيلم بصيغة ويأتي تطورها إلى صيغة ختامية آخر الفيلم، ففي البداية يقول الراوي بصوت عميق مؤثر:
"بينما بعض قصص الحب يكون الحديث عنها ذا معنى، فقصص أخرى من الأفضل أن تظل مدفونة".
ثم في الختام يقول بنفس الصوت القوي، مع ازدياده حكمة:
"بلى، بعض قصص الحب يحسن تركها مدفونة، وبعض أخر يحسن تركه ميتًا".
هذه الجملة تفتتح السرد وتغلقه.
في مقابل هذا الأساس المنغلق لبناء القصة، يهرب صانع الفيلم جاكوب هامبلين Jacob Hamblin من خلال نقاط منفتحة تكسب فيلمه مزيدًا من القدرة التعبيرية، بدءًا من توظيف شكل الحكايات المصورة الموجهة للأطفال، من خلال رسوم متحركة أشبه بخيال الظل أو صور حكايات صندوق الدنيا، وهو أسلوب وظفه التليفزيون في بداياته لإنتاج قصص الأطفال التي تشبه قصص الجدات قديمًا، بما يشكله ذلك من مخاطبة حنين المشاهد لمرحلة طفولته، مما يوافق ذكريات كثير من البشر في مختلف الثقافات المدنية المعاصرة، يأتي ذلك فيما قبل التترات كمشهد جذب Hook افتتاحي، مع توظيف صوت الراوي الذي يختصر كثيرًا من الأحداث التي قد يستغرق عرضها في شكل مشاهد حية زمنا طويلًا من الفيلم، لا يسمح به أمد الفيلم القصير، هذه الأحداث وقعت قبل بداية الفيلم وهي أساسية لفهم أحداثه وأفعال الأبطال خلاله.
هناك أيضًا انفتاح بصري متمثل في توظيف الأبيض والأسود، والإضاءة التعبيرية التي تذكر المشاهد بأفلام الرعب القديمة، وحتى إن لم يكن من هؤلاء الذين شاهدوا هذه الأفلام فإن هذا الشكل البصري يثير شغفه بالماضي ويحفز مخيلته لإنتاج تصورات تسهم في إضفاء حالة أسطورية على الأحداث.
الأبيض والأسود يجرد الأحداث من واقعيتها، ويفسح مجالًا لاندماج المتفرج في فكرة الواقع الموازي الذي لا يُشترط أن ينطبق عليه نواميس الواقع الحي المعروف، فيمكن للميت أن يتأثر بأفعال الأحياء فينهض وينتقم، ويمكن للأحياء أن يتفاعلوا معه فيهاجمونه أو يقاومونه دون حاجة لتفسير منطقي.
أيضًا مساحات الظلال الكبيرة في الكادر ساهمت في خلق مسرح شاسع لخيال المتلقي الذي يملأ تلك الظلال بمعرفته وبخيالاته الناتجة عن جهله بما قد يوجد فيها، فراغات بصرية متروكة لفعل المتلقي وتفاعله مع القليل الذي تكشفه البقع الضوئية المحدودة على الشاشة، هذه التقنية أيضًا ساعدت مدير التصوير جاكسون دين أهلاندر Jackson Dean Ahlander في تصويره الصراع والمطاردات في المقابر بالأسلوب القديم لتصوير النهار لإنتاج مظهر الليل أو ما يعرف عادة ب Day for Night، وهو ليس فقط اختيارًا فنيًا بل حل تقني أيضًا لإضاءة مساحة أرض المدافن الكبيرة الأشبه بغابة هائلة بتجهيزات إضاءة محدودة.
أيضًا هناك انفتاح صوتي نجد أمثلة له بداية من الموسيقى التصويرية التي تسهم بقوة في تأكيد الأجواء الأسطورية، كما أن مشهدًا كاملًا هو مشهد حرس المقابر الليليين وحوارهم حول الفتاة المقتولة، وجدلهم حول الخرافات والخوف والشجاعة، ثم مطاردتهم للصوص وإطلاق النار عليهم، كل ذلك تابعناه دون أن يظهر في لقطة واحدة على الشاشة من خلال تراك الصوت.
لدعم قصر الزمن الفيلمي، نجد الفراغات السردية تؤدي دورها باقتدار بين محاور سردية لا تتقدم حتى النهاية مثل محور السيدة العجوز التي تودع زوجها المتوفى وتعطي نصائحها للشاب المحب وتختفي بعد ذلك أو البائع الفضولي الذي يحكي للشاب قصة الفتاة ومجوهراتها الملعونة ولا يظهر مرة أخرى، هناك أيضًا فراغات على المحاور الممتدة من البداية للنهاية مثل محور الحانوتي العجوز والعروس المرتقبة اللَّذَيْن يختفيان في منتصف الفيلم تمامًا ثم يعودان للظهور في المشهد الأخير.
الزمان والمكان أيضًا يؤكدان الانفتاح ويتركان مساحة من الفراغ البنائي لخيال المتلقي، فما يخلق إحساسك بالزمان والمكان هو الديكور والملابس والحوار والإضاءة والاكسسوار، وهذه العناصر تتضافر لتشوش قدرتك على تحديد أين وقعت الأحداث ومتى، فمثلًا بينما قد تشير الملابس والأجواء والممارسات إلى أوروبا الغربية، أو أحد مجتمعات المستوطنين الأوروبيين لأمريكا الشمالية في القرن السادس عشر أو السابع عشر، نجد طقسًا مثل وضع عملتين معدنيتين في فم المتوفى، وهو طقس روماني قديم اندثر بعد استبدال الإيمان المسيحي بالوثنية القديمة، وكان هدف أصحاب الطقس الأصلي هو منح إحدى العملتين للنوتي العجوز الذي سمي في هذه المعتقدات (خارون) أو (شارون) والذي كان يتولى نقل روح المتوفى عبر نهر (ستيكيس) إلى العالم الآخر. ورود هذا الطقس رغم أنه تأكيد على المعضلة الأساسية التي تؤرق بطل الفيلم وهي إهدار الثروات بدفنها مع الموتى، لكنه يلبس على المتلقي قدرته على تحديد العصر أو البيئة التي تحدث فيها تلك القصة. وهذا يفتح مجالًا لخياله كي يكمله.
إذا أردت رأيي فهذا ليس فيلم رعب، كما تصنفه بعض المواقع، رغم تأثره بأفلام الرعب الهيتشكوكية القديمة، وإحساسك بأنه مأخوذ عن إحدى الروايات القوطية بأجوائها القاتمة الغريبة، لكنه بالأحرى تراجيديا أخرى عن عوالم هوس المحبين، حيث لا تنتهي قصص الحب دائمًا نهاية سعيدة.
هذا فيلم قصير آخر معبأ بالتفاصيل والحكايات التي لم يحكِها على الإطلاق.
عندما نتحدث عن أهمية انفتاح الفيلم القصير وفراغاته السردية قد يكون هذا الفيلم نموذجًا مهما للغاية، كيف استطاع أن يروي كل تلك القصص، ويغرقنا في مشاعر الرفض والقبول والترقب والخزي والبلادة.. تفاعلٌ وانفعال، ومع ذلك لم يعرضها لنا، بل لم يتعرض لها، إنه تركنا نتعرف عليها من خلال الإشارات، والطَرْق المستمر على أبواب ذاكرتنا، والمراهنة على أن المشاهد (حتى أولئك الذين لم يعاصروا تلك الأحداث وربما لم يسمعوا عنها، الذين ربما ولدوا بعد انقضاء هذا التاريخ وتخطوا العشرين عامًا أو الثلاثين) الكل سيخرج من الفيلم ليبحث ويكتشف ويعرف ويفهم حيث يتمدد الفيلم بسلطان إشاراته وتشعب سرده إلى ما قبل لقطته الأولى ونحو ما بعد نهايته المفتوحة.
يتناول الفيلم فترة سوداء في تاريخ الإنسانية وليس في تاريخ أوروبا فقط، إنها المذابح البشعة وحرب التطهير العرقي والإبادة الجماعية التي تعرض لها المسلمون البوسنيون في حرب البوسنة والهرسك (1992-1995)، حرب هزت ضمير الإنسانية التي وقفت كالعادة تتفرج دون تدخل سوى الإدانة وإبداء الغضب تمامًا مثلما يحدث اليوم إزاء غزة، وكأن العبارة التقليدية التي تقول "ما أشبه الليلة بالبارحة" تلخص دورة الزمن وبلادة ردود الأفعال واستفحال الإجرام.
وُصفت هذه الحرب بأنها حرب قروسطية، في إشارة مرجعية إلى الإبادة والتعذيب الممنهج الذي تم على يد محاكم التفتيش التي نصبتها الكنيسة في أوروبا في القرون الوسطى، وربما بصورة إن لم تضاهها بشاعة فقد زادت عنها.
ممارسات الصرب كانت وحشية تجاه المسلمين الأوروبيين الذين وقعوا في الفخ وسلموا أسلحتهم تحت دعاوى الهدنة والسلام ثم مال عليهم أعداؤهم مَيْلَة واحدة فعزلوا الرجال في معسكرات جماعية. تم تعذيبهم وإعدامهم وإلقاؤهم في مقابر جماعية بأعداد لم يتمكن أحد من إحصائها بشكل كامل، لكن بعض التقديرات تشير إلى وصولها إلى مائتي ألف شهيد. وفي جهة أخرى عُزلت النساء وتعرضن لعمليات تعذيب ممنهج هن أيضًا تضمن التجويع والاغتصاب، بل واحتجاز المغتصبات تسعة أشهر حتى تضعن أبناء يحملون الجينات الصربية. تفكير شيطاني لا يمكن تصوره ورغم ذلك كان واقعًا، وربما ليس غريبًا على قارة أنجبت يومًا كاليجولا ونيرون وإيفان الرهيب وهتلر وستالين وموسوليني وسلوبودان ميلوشوفيتش سفاح الصرب، هذه القارة التي استغلت كل المرجعيات سواء الدينية أو الفلسفية أو العلمية المعملية لإثبات السيادة لعنصرها على العالم.
فيلمنا الذي نتناوله والذي أحيا في ذاكرتنا هذه الأيام الممتدة لم يحكِ ما حدث وإلا احتاج ساعات طويلة لكنه (متبعًا القاعدة الأصيلة في كتابة القصة القصيرة والتي ورثها عنها الفيلم القصير حيث اختيار لحظة شديدة التميز كاشفة للماضي والحاضر والمستقبل) ركز على واقعة واحدة وهي مذبحة (شتربتشي) التي قامت بها ميليشيا عسكرية صربية، تناول الفيلم شخصية واحدة ضمن التسعة عشر الذين تم تعذيبهم وقتلهم وإخفاء جثثهم التي يقال إنها ألقيت في النهر ولم يُعثر على أي منها حتى اليوم، والشخصية هو تومو بوزوف، الرجل الذي لم يستطع أن يبقى صامتًا.
يبدأ الفيلم وينتهي في لحظة زمانية وحيز مكاني محدودين للغاية، في كابينة ضيقة بإحدى عربات قطار يجتمع فيها أشخاص متنوعو الأعمار: رجل ربما في الأربعين وإلى جواره فتاة مراهقة وطفلة صغيرة ربما كانتا ابنتيه. شاب صغير السن ربما في أوائل العشرينيات وعجوز طاعن في السن وأخيرًا كهل ربما في أواخر الأربعينيات أو الخمسينيات يتجاهله السرد حتى قُبيل نهاية الفيلم بقليل رغم أننا نكتشف آخر الأمر أنه هو البطل الحقيقي للفيلم، الرجل الذي يشير إليه العنوان، لكن ربما كنوع من التعبير المجازي يظل غير مشارك وشبه مختفٍ حتى ما قبل النهاية بقليل؛ فكما يقول العنوان إنه لم يستطع أن يبقى صامتًا ومعنى ذلك أنه كان صامتًا، لكنه إزاء الإجرام الذي يراه لم يتمكن من الاستمرار على حالة السكون التي كان عليها.
استخدم صانع الفيلم -على حد تعبيره هو نفسه في أحد لقاءاته- تقنية البطل المزيف، حيث يشد الانتباه لشخص معين يتصور جميع المشاهدين أنه هو البطل، لكن المفارقة تأتي آخرَ الأمر عند ظهور البطل الحقيقي معبرًا عن ذاته حيث يضحي بنفسه في سبيل آخر لم يكن يعرفه على الإطلاق. الفيلم هنا يروي الأحداث من وجهة نظر الشهود وليس البطل نفسه.
عن طريق نص مكتوب على الشاشة تم إهداء الفيلم إلى ذكرى البطل تومو بوزوف، وهي إحالة مباشرة تحملنا إلى البحث عن هذه الشخصية الغامضة التي لم يهتم أحد في سرديات ما بعد الحرب بذكرها، فهو كرواتي مسيحي كان ضابطًا سابقًا في الجيش الاتحادي، وعاش معظم حياته في صربيا، لكنه عندما بدأ يشعر بأن هناك حربًا أهلية على وشك الوقوع قرر أن يتقاعد عن الخدمة اختياريًا لأنه لم يتصور يومًا بعدما كانت مهمته الدفاع عن وطنه أن يضطر لحمل السلاح في وجه أبناء جلدته وأصدقائه وجيرانه. ترك الخدمة قبل عام واحد من اندلاع الحرب، وبذلك نظر له الكروات كخائن لأنه يعيش في صربيا ونظر له الصرب أيضًا كخائن لأنه ترك الجيش قبل الحرب مباشرة أما بالنسبة للمسلمين فلم يكن منتظرًا الاهتمام به لأن لديهم عشرات الآلاف من الضحايا المسلمين والأولوية طبعًا لضحاياهم الذين لم يكن هو منهم لكنه كان دون شك معهم؛ عُذّب وقُتل وأُخفِيَ من الوجود بالطريقة نفسها لأنه -فقط- لم يستطع أن يظل صامتًا.
القصة الحقيقية التي ارتكز عليها الفيلم كمرجعية تاريخية هي واقعة إيقاف قطار من قبل مسلحين صرب، ميليشيا مدعومة من الجيش الصربي لكنها غير رسمية، ليست -نظاميًا- إحدى فِرَق الجيش رغم حمل منتسبيها رتبًا عسكرية أثناء الحرب.
قام هؤلاء بإخراج ثمانية عشر رجلا مسلمًا -غير مسلحين ولا إدانات جنائية أو غير جنائية ضدهم- من القطار، وكان التاسع عشر هو بطلنا الذي استاء من هذا التصرف، فهو ضابط سابق في جيش نظامي وابنه كان قد التحق مؤخرًا بالخدمة العسكرية في نفس الجيش، وكان بوزوف الأب في طريقه لزيارة ابنه، وهو ربما ما جعله يتعاطف مع شاب في نفس عمر ابنه يجلس إلى جواره في كابينة القطار وكان المسلحون على وشك سحبه إلى الخارج حيث لم يكن معه أي وثائق هوية (ربما بالمصادفة لأنه لم يتوقع مثل هذا التفتيش المفاجئ وغير المعتاد)، لم يكن الشاب مسلمًا، هو فقط لم يتمكن من إثبات هويته الدينية.. انبرى الضابط السابق والأب بوزوف دفاعًا عن الشاب فما كان من المسلحين إلا أن أخذوه ليختفي بعد ذلك إلى الأبد.
اعتمد صانع الفيلم نيبويشا سلييبسيفيتش Nebojša Slijepčević فتْح السرد على التاريخ من خلال قصة الحرب في البوسنة والهرسك والواقعة التي حدثت -تقريبًا- في زمن متوسط من هذه الحرب (حوالي عام 1993) والبطل الذي تم إحياء ذكراه مؤخرًا عندما استطاعت زوجته الحصول على موافقة بوضع لوحة تذكارية باسمه بجوار المبنى السكني الذي عاش فيه، حيث ظهرت قصته المنسية والتي بدا أنها تستحق أن تروى لما فيها من الكشف عن الماضي وأثره في الحاضر والمستقبل.
نقاط تشعع عديدة حققت انفتاح السرد من خلال:
العنوان (الرجل الذي لم يستطع البقاء صامتًا)، هذا العنوان الطويل نسبيًا يتضمن الإشارة إلى ثلاثة محاور هي: الرجل (البطل) والشروع في الكلام أو النطق أخيرًا، وهو أمر لا يرد مباشرة في الكلام لكنه يفهم مجازًا، وأخيرًا الصمت؛ تلك الحالة التي يجملها العنوان ثم يتم تفصيلها بصريًا من خلال الشخصيات المجتمعة في كابينة القطار، فالصمت ليس نوعًا واحدًا؛ فهناك صمت العجز الذي يمثله الرجل المسنّ، وصمت الخوف الذي يمثله البطل المزيف الذي شرع في المواجهة مع الجنود لكنه إزاء صرامة القائد يتراجع ويصمت رغمًا عنه. أيضًا هناك حالة البلادة من المراهقة التي لا يشغلها الأمر برمته، بل إنها طوال الأحداث لم تنزع سماعات الرأس عن أذنيها أو تهتم بمتابعة الموقف على الإطلاق كما لو كانت مغيبة تمامًا تحت تأثير الموسيقى التي تنصت إليها، إنه نوع من الصمت ناجم عن غياب الوعي، أما الطفلة الصغيرة التي لا تدرك أصلًا ما يحدث فهي تمثل صمتًا ناجمًا عن الجهل، فهي لا تكاد تعرف ما يدور حولها.
جميع حالات الصمت المذكورة هنا (من وجهة نظر صانع الفيلم) هي نوع من التواطؤ مع الإجرام، وهي تحقق التباين الذي يجعل موقف البطل الحقيقي أخيرًا شديد السطوع؛ فرغم كل هذا التواطؤ يهب أخيرًا أحد المتواطئين، الصامتين، ليقرر أن يفتح فمه ويواجه مصيره أيًا ما يكون.
ينفتح الفيلم بصريًا حيث يخاطب صانع الفيلم ذاكرة المتلقي لتزويده بمعان ومواقف ومفاهيم لا يحتاج السرد للإسهاب في ذكرها كي لا يتخطى زمن الفيلم المحدود، فكابينة القطار المغلقة تحيلنا لمشاعر الضيق وعدم الراحة والاحتجاز ونقص فرص الهروب، والقطار نفسه يحقق فكرة الرحلة التي تمثل الحياة نفسها (تخيل لو لم تكن الأحداث تدور في قطار أو أن تكون عربة القطار مفتوحة وليست في شكل كبائن صغيرة، لكان السرد البصري قد فقد الكثير من دلاليته). أيضًا، إكسسوارات بسيطة مثل ملابس الجد العجوز أو سماعات الرأس للمراهقة أو الجريدة وكوب القهوة والنظارة للبطل، كل ذلك يعطينا معلومات عن كل شخصية دون الحاجة لذكرها على الإطلاق. حتى حركة الكاميرا الدائرية داخل الكابينة الضيقة آخر الفيلم، واللقطات القريبة الكثيفة التي توحي بالعزلة، والظلام الذي يفتتح الفيلم ويختتم به، كل ذلك ساعد على تحقيق عنصر التركيز حيث كل لقطة وحركة كاميرا وإضاءة وقطعة إكسسوار مشبعة بعلامات عديدة تختصر كثيرًا من المعلومات.
بنية السرد الدائرية التي تبدأ من الظلام وتنتهي إليه تحيل المتلقي إلى فكرة التكرار والوِحدِيَّة التي يمثلها الفيلم حيث يمثل جزيئًا ضمن جزيئات أخرى تمثلها الحياة أو الحرب أو حياة الإنسان في ظل الحرب.
الصوت أيضًا وظف بمهارة لتحقيق إحالات عديدة تحقق انفتاح الفيلم، فلا تحده بحدود المذكور فيه صراحة، ولا تقصر الحدث نفسه على تلك الكابينة الضيقة.
من خلال الحوار المقتصب غير المباشر نعرف أي حرب تلك وما ظروفها؛ فمثلا، سؤال الرجل في الكابينة للشاب القلق عندما يعلم أنه لا يحمل أوراق هوية: "ما اسمك" فالاسم هنا يفرق كثيرًا، كذلك يسأل الضابط المسافرين: "من شفيعك؟ من هو القديس الراعي لعائلتك؟"، و عندما يجيبه الأول: "مار جرجس"، يتمنى له رحلة سعيدة، أما الآخر عندما يتردد في الإجابة، يبادره الضابط بلهجة اتهامية باردة: "ربما محمد!"، أما البطل (بوزوف) عندما يقف مدافعًا عن القيم، يبادره المسلح باتهام حاسم: "هل أنت من محبي المسلمين؟!".
إذًا عرفنا الحرب وعرفنا ظروفها وأطراف الصراع دون أن يعرض الفيلم لنا أي مشاهد مباشرة.
الصوت أيضًا يساعدنا كثيرًا للخروج من الكابينة وتصور ما لا نراه، فالفيلم يُفتتح ويُنهي بظلام تام لكننا من خلال تراك الصوت فقط نسمع صوت عجلات القطار لندرك أننا في قطار وأن القطار يتحرك وأنه وقف فجأة، وكذلك في آخر الفيلم نعرف أن القطار تحرك وأنه لن ينتظر عودة من غادروه حتى لو كانت متعلقاتهم ما تزال باقية في مكانها.
لم يستخدم صانع الفيلم أي موسيقى تصويرية ومع ذلك كان عنصر الصوت حاسما ومعبرًا حيث واقعية الأصوات التي نسمعها غالبًا من خارج الكادر تساعدنا بقوة على بناء صور عديدة من خلال الخيال عما يحدث أو عن مشاعر الشخصيات الداخلية التي لا يمكن تصويرها.
فيلم The Man Who Could Not Remain Silent هو واحد من تلك الأفلام التي تستحق المشاهدة لبنيتها المحكمة، وللإجادة الفائقة لجميع عناصرها سواء في التصوير أو المونتاج أو الأداء التمثيلي لجميع الممثلين وقبل ذلك اختيار كل شخصية ووضعها في محلها تمامًا بملامحها وصوتها وهيأتها، وقبل كل شيء الموضوع الإنساني الذي يحرك الذاكرة والعواطف ويطرح قضية شديدة الأهمية بلطف شديد، ولن تغادر ذاكرتي صورة الطفلة المتعلقة بنافذة القطار هاتفة باسم شخص ربما كان أباها الذي نعرف الآن جميعًا أنه لم يعد لها على الإطلاق، ولقطة جريدة البطل ونظارته وقهوته التي لن يكملها.. البطل تومو بوزوف الذي لم يحارب في هذه الحرب رغم انتمائه للجيش، ولم يكن مسلمًا لكنه مات مع المسلمين لأنه أدرك في اللحظة الأخيرة أن إنسانيته تستحق أن يتكلم أخيرًا ولو كانت تلك كلمته الأخيرة.
الانفتاح هو خاصية مهمة- فيما يبدو لي- تسهم في نجاح الأفلام القصيرة وقد لا تكون مهمة للغاية في الأفلام الطويلة التي قد تمتاز- على عكس ذلك- بالانغلاق على نفسها، وهي رفاهية لا يملكها الفيلم القصير.
للتوضيح؛ نستطيع أن نتخيل الفيلم الطويل ككرة تشبه الكرة الأرضية، حيث يبدأ الفيلم عند نقطة محددة على سطحها ثم يتشعب من خلال أحداثه وشخصياته ودوافعهم وصراعاتهم فيتدفق في مسارات متعددة كأنها طرق أو أنهار على السطح، تسير متوازية حينًا ومتقاطعة حينًا وربما متعرجة أو مستقيمة أو متشعبة، وقد تصعد في الفضاء ثم تنزل مرة أخرى، وقد تكون متواصلة أو متقطعة لكنها جميعًا تلتقي في آخر الأمر عند نقطة واحدة حيث تكتب: (النهاية).
الفيلم القصير على خلاف ذلك، يسير- فيما يشبه خط الزمن أو الTime Line- مسارًا واحدًا له بداية ونهاية، لكن على مدى هذا المسار القصير توجد العديد من النقاط التشعبية التي يمكن اعتبارها بلغة عصر الإنترنت (Hyberlinks) تتفرع كشجيرات أو أشجار تختلف امتداداتها التي قد تنتهي عند نقاط محددة، أو لا تنتهي على الإطلاق في الحيز المرئي والمسموع والمتخيَل (حيز التلقي) للمشاهد، قد تمتد هذه التفريعات إلى ذاكرة المتلقي لتقتبس منها ما هو مشترك وجمعي ومعروف بالضرورة عند صانع الفيلم ومتلقيه على السواء، وقد تمتد إلى عوالم وعي المتلقي أو لاوعيه لتنهل مما لم يتخيله حتى صانع الفيلم لتنتج دلالات جديدة قد تجعل من كل حالة مشاهدة للفيلم القصير تجربة فنية متميزة لكل مشاهد على حدة قد تختلف حتى عن تجربة جاره في صالة العرض.
للفيلم القصير مدى زمني محدود قد لا يزيد عن بضعة دقائق أو في أقصى الظروف أقل من خمسين دقيقة، لكن انفتاح هذا المدى يتيح للمتلقي عالمًا لا يقل طولا عن أي فيلم طويل، وهو ربما يكون أعمق أثرًا من كثير من الأفلام الطويلة التي تبدأ تجربة مشاهدتها والتمتع بها وتنتهي داخل دار العرض، أما الفيلم القصير المنفتح قد يحفز المشاهد على استمرار المعايشة والتفكير في غوامضه ومناقشتها مع الآخرين بعد المشاهدة بزمن طويل. لذلك يكون على صانع الفيلم إدراك ذلك للاستفادة من هذه الخاصية، وربما على منظمي عروض الأفلام القصيرة خاصة في المهرجانات أن يدركوها حتى يتركوا دقائق بين كل فيلم قصير والذي يليه (وهو ما لا يحدث عادة في جدولة عروض الأفلام القصيرة) تسمح للمتلقي بالتشبع من تجربة المشاهدة مهما كان الفيلم قصيرًا.
في أمينة، الفيلم الإيطالي القصير لمخرجته سيرينا توندو، نجد مثالا جيدًا لهذه الخاصية. الفيلم يتناول رحلة لفتى أفغاني (نكتشف لاحقًا أنه فتاة) تعبر الحدود من أفغانستان إلى إيطاليا مارة بإيران وصربيا حتى تصل أخيرًا وجهتها، أو بر الأمان الذي تتلقاها عنده مسعفتان بوجهين ملائكيين (إحداهما هي- في الحقيقة- المخرجة نفسها). تسألانها عن اسمها فتجيبهما (آمنة). خلال هذه الرحلة التي تستغرق ليلة أو عدة ليالٍ؛ يسير الفيلم في خط زمني بسيط متسلسل، لكن مع ذلك يتشعب مرات عديدة ليفتح الأفق أمام المتلقي عن طريق أربع مشاهد استرجاع للذاكرة (فلاش باك) من خلال رؤى بعضها أحلام غفوة إثر الإرهاق وبعضها أحلام يقظة نتيجة الألم. من خلال مشاهد الذاكرة هذه نستكتشف الحياة في قرية أفغانية، ونواجه الآمال والأحلام والبراءة المشبعة بالبهجة لدى أطفال ذلك المجتمع الذين لا يختلفون عن أقرانهم في أي مكان آخر من العالم، ثم نرى حال أسرة أفغانية ميسورة نوعًا ما، ونعرف موقف المجتمع من المرأة؛ فتاة صغيرة وامرأة ناضجة. نتعرف على قوة الأب/الرجل في المجتمع الأفغاني وسلطته والمزايا التي يتمتع بها الطفل الذكر مقابل الطفلة الأنثى، ونشهد معنى كيف يتغلب المجتمع على القيود الثقافية المفروضة على أفراده عن طريق الحيلة. رحلة تستغرقنا حتى ينكشف لنا أخيرًا موضوع الفيلم الذي هو رحلة البطلة لاكتشاف هويتها الجندرية والتعايش مع حقيقتها الجنسية الطبيعية.
يبدأ الفيلم مع مجموعة من المهاجرين غير الشرعيين الذين يقعون في أيدي حرس الحدود بين أفغانستان وإيران، وبينما يعنفهم أحد الجنود الذي يبدو أنه يريد أن يخرج منهم بغنيمة مالية؛ يحاولون الفرار كل في اتجاه بعضهم يفشل وبعضهم لا نعرف إن كان قد نجح أو فشل، لكننا نتتبع أصغرهم سنًا وأضعفهم جثمانًا فتى أمرد ينجح في الفرار ويصل بمعاونة شخص ما إلى سائق شاحنة يعمل في نقل الأطعمة بين الحدود الصربية والإيطالية الذي يوافق على نقل الفتى مقابل مبلغ من المال يتلقاه مقدمًا، فيجد الفتى نفسه داخل حاوية السيارة التي هي ثلاجة ضخمة. يصيبه الرعب في البداية لكنه لا يلبث أن يسكن ويبدأ الإرهاق والبرودة الشديدة في جعله يسترجع ذكرياته فنكتشف معه حياته التي بدت سعيدة حيث هو في بيته فتى مفضل لدى أبيه، شغوف بلعب الكرة، متفوق بين أقرانه يرتدي قميص ميسي ويحقق الانتصار لفريقه حتى فجأة تأتي المعرفة كما اعتدنا في التراجيديات لتقلب سعادته بؤسًا حيث نكتشف ويكتشف أقرانه في الملعب أنه أنثى. هو نفسه فيما يبدو لم يكن يدرك هذه الحقيقة البيولوجية. هنا تتغير إزاءه كل الحياة وتنتكس مواقف الجميع؛ أصدقاؤه يهاجمونه ويطردونه بعد أن يكيلوا له الاهانات فيما عدا صديق واحد مقرب إليه. وفي المنزل يظن أن ظهور علامات الأنوثة عليه ليس إلا تجربة جديدة يخوضها أو تخوضها، لكنه يفاجأ أنه يتم استبداله بعد أن ارتدى الملابس النسائية وتحل محله أخته الصغرى التي كانت مهمشة حتى هذه اللحظة لكن الأبوين هنا يقومان بقص شعر الأخرى ووضعها داخل حُلة صبيانية وتغيير اسمها من سميرة إلى سمير، ويصبح مسموحًا لها بالخروج إلى الملعب بصحبة (نظير) الذي كان قبل قليل الصديق الوحيد المخلص للكبرى التي كانت أحمد فأمست أمينة. الوضع الذي جعلها تشعر بالعجز والصدمة، لكن ما الحيلة؟! لم يمد لها أحدٌ يدَ العون إلا الأم التي بادرت مرغمة مقهورة على دفع ابنتها بعيدًا للهجرة، أعطتها المال وصرخت في وجهها والدموع تملأ مقلتيها: "لا تعودي إلى هنا أبدًا"، ومن هنا بدأت رحلة أمينة إلى إيطاليا حيث يمكنها أن تعيش بهويتها الجنسية الحقيقية دون أن تشعر باضطهاد (من وجهة نظر صناع الفيلم).
قد يشعر المتلقي بغموض في الأحداث، لا يزول إلا مع نهاية الفيلم حيث تُفسِّر صانعتُه الموضوعَ من خلال نص مكتوب في صورة تترات بَدَتْ طويلة للغاية. ربما لجأت المخرجة لهذه الحيلة المقحمة على السياق كي تكون رسالتها واضحة وفي نفس الوقت لا تسترسل في السرد السينمائي الذي قد يحتاج مدة طويلة لعرض القضية، وبالفعل سيكون مهمًا بالنسبة للمشاهد البعيد عن الثقافة الأفغانية- حتى يفهم الفيلم- أن يكون ملمًا نوعًا ما بفكرة عن ما يسمى ب (الباشا بوش).
الباشا بوش Bacha Posh، وتنطق أيضًا بچه پوش عند بعض القوميات الأفغانية؛ هي ممارسة قديمة في بعض المناطق من أفغانستان وباكستان. تعني أن العائلة التي لم تُرزق بطفل صبي تختار إحدى بناتها فتجعلها ترتدي زي صبي وتمارس حياتها كصبي حتى تنسى تمامًا وينسى كل المحيطين بها كونها أنثى، لكن عندما تصل إلى سن البلوغ وتبدأ أنوثتها في الإفصاح عن نفسها يصبح عليها أن تعود إلى طبيعتها الجنسية التي خلقت عليها فتجد نوعًا من عدم التقبل، لا هي تستطيع تقبل حياتها الجديدة بسهولة ولا المحيطون بها بخلاف أسرتها يمنحونها فرصة لذلك؛ حيث يمنحها وضعها الأول مزايا عديدة تنسحب من تحت قدميها دفعة واحدة، بعد أن كانت تستطيع الخروج للمدرسة فتتعلم وتخرج إلى الشارع بحرية فيمكنها أن تلعب أو تعمل أو ترافق أخواتها كمَحرَم لهم. كل هذا ينتهي وغالبا يكون ذلك قبل فترة قصيرة من دخولها لتجربة الزواج. تخيل أنها بعد أن كانت تتعامل مع الصبيان كصبي مثلهم ند لهم يكون عليها أن تصبح زوجة لأحد أقرانها هؤلاء!
غير معروف تمامًا متى بدأ وجود هذه الممارسة، البعض يرجعها إلى أيام اضطرت فيها النساء إلى ارتداء أزياء الرجال للقتال والذود عن أحيائهن في غياب الرجال، والبعض يرجعها إلى لجوء بعض النساء لارتداء زي الحرس حيث كن تقمن على حراسة الحريم لدى الملوك والأمراء. كما يعتقد آخرون أن الأمر كان حلا عمليًا لدى الأسر التي لم ترزق بصبيان خاصة في الطبقات الفقيرة التي تحتاج لإرسال أبنائها الصغار للعمل، وهناك اعتقاد أيضًا أن الأسرة التي يوجد بها باشا بوش يصبح لديها احتمال أكبر ليكون الابن القادم ذكرًا.
لتتضح الصورة أكثر فهناك ممارسة موازية لهذه في أفغانستان تسمى باشا بازي، وفي مقابل الباشا بوش الذي هو فتاة تعيش بهوية ذكر، يكون الباشا بازي صبي يعيش بهوية أنثى، حيث يمارس الرقص في الاحتفالات وأعمال الترفيه والإمتاع ومرافقة الأغنياء مقابل المال. تُظهره بعض الصور القديمة بشعر طويل وملابس وزينة نسائية ترتبط به حتى سن البلوغ. وفي الحالتين كلتيهما (الباشا بوش والباشا بازي) يصبح من الصعب عليهما التحول المفاجئ إلى طبيعتهما، ورغم الحكايات المأساوية المرتبطة بهذه الممارسات، والمحاولات المستميتة من الحكومة الأفغانية للقضاء على تلك الظواهر المخالفة لتعاليم الإسلام، إلا أنهم لم يستطيعوا القضاء عليها تمامًا.
قد لا تكون هذه الممارسات معروفة أو مفهومة عندنا أو عند المشاهد الغربي أيضًا. لكن هناك عدة أفلام معروفة عرضت في مهرجانات عالمية وهي متاحة على الإنترنت تناولت موضوع الباشا بوش مثل الفيلم الإيراني باران Baran إخراج ماجد مجيدي عام 2002م الذي يتحدث عن فتاة من أصل أفغاني تضطرها الظروف إلى التخفي في زي صبي لتحل محل أبيها عامل البناء الذي يصاب أثناء العمل ويكون ذلك خيارها الوحيد لتتولى مسؤولية الأسرة. والفيلم الأفغاني أسامة Osama إخراج صديق برمك عام 2003م الذي يتناول قصة عن مراهقة أفغانية بعد وفاة والدها واستيلاء حركة طالبان على الحكم تحتاج والدتها- التي كانت تعمل كممرضة- مَحرمًا (مرافقًا ذكرًا) لتتمكن من القيام بزيارات منزلية لمريض، فتدفع الجدةُ الفتاةَ للتحول إلى مظهر صبي لمصاحبة الأم والخروج للعمل لاحقًا في مطعم صغير لتوفير الطعام للأسرة، لكن لسوء حظها تفاجأ بنفسها وقد أخذت قسرًا مع صبيان البلدة الآخرين؛ لتُضم إلى معسكر تدريب عسكري تابع لطالبان. والفيلمان متاحان على الإنترنت لمن يريد فهمًا أعمق حول هذا الموضوع.
موضوع الباشا بوش وما يرتبط به من تحول جندري هو المحور الأصلي الذي يدور حوله الفيلم، وهو موضوع غامض بالنسبة للمشاهدين حول العالم؛ الفيلم لا يزيل بدءًا هذا الغموض الذي يؤكد لنا خاصية الانفتاح في الفيلم القصير التي تكلمنا عنها، فالفيلم هنا يمتد إلى ما هو خارج أحداثه التي تتناول رحلة هروب لأحد المهاجرين من موطنه إلى وطن بديل، لكنه بعيدًا عن قضية الهجرة يمد تفرعاته الشجرية إلى تساؤلات أخرى تتعلق بتعايش المراهق أو المراهقة مع خصائصهما الجندرية والفرق بين الجندر الذي هو حالة ثقافية والجنس الذي هو بنية فيسيولوجية. ودور المجتمع والأسرة والبيئة الثقافية في زرع تصورات الإنسان عن نفسه وقدرته على التعايش مع ذاته كحالة فريدة بين أقرانه، وأيضًا كوحدة متكررة من الحالات الفريدة تُكوّن المجتمع ككل.
سيرينا توندو المخرجة والكاتبة المشاركة والممثلة أيضًا التي تظهر في المشهد الأخير من الفيلم كمسعفة تلتقي البطلة عند وصولها إلى هدفها؛ مع ظهورها هذا تفصح للجمهور عن رسالة الفيلم بنص (طويل) مكتوب قبل التترات النهائية يلقي الضوء عن ممارسة الباشا بوش، ورسالةً من أم أفغانية عاشت في مراهقتها تجربة الحياة في زي صبي وبأسلوب الصبيان. هذا النص المقحم الذي فسر غموض الأحداث نعتبره، رغم أهميته في إيصال الرسالة؛ انقلابًا على فنية الفيلم القصير لأنه- نستطيع أن نقول- أغلق أحداثه، أوصل المشاهد إلى نقطة (النهاية) التي لن يجد سببًا بعدها للاستمرار في التفكير حول الفيلم أو طرح مزيد من التساؤلات. وبما أن الحياة اختيار، وصناعة الأفلام أيضًا خيار صانعه نستطيع أن نقول إن سيرينا توندو مالت لمفهوم الفن كرسالة بدلا من الفن كفن خالص، لكنها مع ذلك لم تغفل الاستفادة من خاصية الانفتاح في الفيلم القصير فتركت أحداثه منفتحة طوال الفيلم، ولم تلجأ إلى إغلاقها (تفسيرها) إلا مع تترات النهاية.
المفقود والمضاف في الترجمة
عندما تتم ترجمة نص من لغة إلى أخرى، عادة لن يكون النص المحدَث في اللغة المترجم إليها مطابقًا تمامًا للنص الأصلي وهي معضلة يواجهها دائمًا المترجمون ويحاولون التغلب عليها ومع ذلك فتلك غاية مثالية لم يصل أحدهم إليها من قبل، لأن اللغة ليست مجرد كيان مرن يمكن تحويله من صورة لأخرى، إنها حاوية تحمل في طياتها ثقافة وتاريخًا وحياة كاملة لكاتبها والمجتمع الذي نشأ فيه والعصر الذي ظهر فيه وغير ذلك.
فيلم أمينة الذي نستطيع أن نطلق عليه (فيلم حدود) يتناول لحظة من حياة البطلة اجتمع فيها كونها عالقة بين حدود عديدة؛ الحدود بين أفغانستان وإيران، الحدود بين صربيا وإيطاليا، الحدود بين آسيا وأوروبا، الحدود بين مجتمعين (عالَمين) كل منهما مجهول تمامًا أو غائم جزئيًا بالنسبة للآخر، والحدود بين الطفولة والبلوغ، وأيضًا الحدود بين الأنوثة والرجولة. كل هذه الحدود جعلت وستجعل هناك مساحة غير محدودة للالتباس لدى المتلقي الذي يسمع حوارات تتداخل فيها لغات عديدة: البشتوية والفارسية والإيطالية والإنجليزية والعربية أيضًا، بالإضافة إلى لغة العيون والنظرات والرموز المرئية المرتبطة ببيئة الفيلم المكانية والزمانية، وثقافة صانع الفيلم أيضًا الذي يقوم بدور الوسيط بين واقع الأحداث وعالم الفيلم والجمهور في طرف آخر، ومع كل تلك اللغات بعلاماتها وإشاراتها، دوالها ومدلولاتها؛ لن يكون تلقي الفيلم تجربة متكافئة عند جميع المتلقين، عندنا في العالم العربي مثلا لن يكون مثل أفغانستان وإيران في الشرق، كما أن المشاهد الغربي خاصة في بلد إنتاج الفيلم (إيطاليا) سيكون تلقيه مختلفًا تمامًا، وبما أننا في عصر الإنترنت، ذلك العصر الذي زالت فيه حواجز الجغرافيا واللغة، سيبقى الالتباس في أقصى صوره لأن فرص تفسير الفيلم تتعدد بتعدد مشاهديه. ومن أهم أسباب هذا الالتباس تعدد اللغات التي نسمعها تتردد في الفيلم.
الالتباس في فهم اللغة قد يضيع بعض المعاني والمقاصد كما أنه قد يضيف أيضًا معاني لم تَجُل بخاطر صانع الفيلم، وذلك ما حدث عندما نطقت البطلة اسمها آخر الفيلم وهي بين يدي المسعفتين تسألانها عنه فتقول لهم بسعادة غامرة وكأنها تتنفس الصعداء: "آمنة"! بالنسبة للمشاهد الإيطالي مثلا سيمر عليه الاسم وكأنه لا يختلف عن اسم البطلة التي يحمل الفيلم اسمها، لكن بالنسبة للمشاهد العربي سيكون هناك فرق شاسع بين (أمينة) و(آمنة) والاسمان أصلهما عربي، ورغم أنهما اشتقاقان من مصدر واحد إلا أن الأول يعني أنها تحمل أمانة أما الثاني فيعني أنها وصلت بر الأمان.. ترديد صدى الاسمين في الذهن العربي يمثل استعارة بليغة تفسر الأحداث وتضيئها، فالفتاة التي كانت أمينة على سر أسرتها وسرها لا تبوح به لأحد وتحمله بجهد وكدّ، صارت الآن آمنة لا تخشى من أي تبعات لانكشاف السر.. اليومَ، آمنة يعني متحررة من همومها والتزاماتها الأولى.
لكن أيضًا لا يغيب عنا أن أخطاء قراءة أمينة للقرآن وهي إلى جوار أبيها الذي يهز رأسه برضى وسعادة بمستواها في التعلُّم، لن تمر مرور الكرام على المشاهد العربي ولا حتى الأفغاني الذي يعيش في أفغانستان. يبدو أن المشاركين في الفيلم من الأفغان ليسوا وثيقي الصلة ببلدهم الأم فأصبحت ألسنهم ثقيلة في قراءة القرآن، مما يشككنا أيضًا في أنهم يتحدثون بلغة الأفغان بشكل سليم، وهو أمر لا أستطيع الحكم عليه لأنني لا أتحدث هذه اللغة، لكنني عندما زرت بلدة جبلية على الحدود بين باكستان وأفغانستان وتسنى لي أن أصلي الجمعة بين أهلها وجدتهم يجيدون قراءة القرآن بفصاحة، لذلك أشك أن يتقبل الأفغان الأصليون هذه القراءة، ومع ذلك فإن الأداء الرائع للممثلين خاصة إلهام حسين سادات (أمينة) وحسين طاهري (الأب) قد يجعلنا إلى حد بعيد نتغاضى عن هذه النقطة الجدلية، بل ربما نتعاطف مع المخرجة التي وجدت نفسها وسط هذا الملتقى الذي تتزاحم فيه كل هذه اللغات، لكنها طبيعة الموضوع.
اللغة السينمائية
يقدم لنا الفيلم قضية قد تُعتبر إلى حد بعيد شائكة، ليس لكونها سرًا أو أنها ممنوع الحديث عنها؛ لكن تخيَّل أي فيلم غربي أو ممول من الغرب بينما أحداثه تدور في الشرق، ماذا ستكون توقعات المشاهد الشرقي حياله؟! المشاهد الذي ظلت بلاده زمنًا طويلا محتلة ومقهورة ومستنزفة من الغرب، والذي عانى كثيرًا وما يزال من نظريات الأوروبيين التي صوروا أنفسهم من خلالها كنوع أرقى من البشر له حق السيادة على الكون لأن الآخرين إما أن يقبلوا التحضر بالمفهوم الغربي أو أنهم لا يستحقون الحياة.
دون شك سيكون المتلقي متربصًا، وستحكم مشاهدته للفيلم نظرية المؤامرة التي لن تسمح للفيلم بأن يلقى تقييمًا موضوعيًا له كفيلم وليس كقنبلة ثقافية معدة للانفجار.
استطاعت سيرينا توندو بحذق وحرفية أن تتخطى إلى قلب المشاهد من خلال معالجتها الرومانسية وقفزها على المناطق الشائكة، وتعقبها مواطن الإنسانية في القصة التي يتجرد عندها الجميع من أردانهم الثقافية ويتحولون إلى مجرد بشر. قضاياهم وسلوكهم وحيلهم، آمالهم وأحلامهم، صراعاتهم وحتى صدماتهم. كل شيء هو حالة عامة توحد الجميع ويتراخى أمامها المتلقي مطمئنًا إلى تلك الروح البعيدة التي تتناول فكرة عامة تهم الإنسان أيًا ما كان عرقه أو لونه أو معتقده.
وظفت سيرينا الرموز الثقافية ببراعة، فمثلا الرمان هذه الفاكهة التي تُزرع في جنوب أفغانستان بكثافة وجودة لا تضاهى، والتي تصدّر إلى أوروبا بكميات هائلة، ليس غريبًا أن توظفها في تفجير ذكريات البطلة عن وطنها وهي في طريقها إلى أوروبا، وتوظفها في إبراز أهم مرابط الأحداث والشخصيات عندما تضعنا في مقارنة بين الأختين: أمينة التي تعيش حالة الباشا بوش في زي صبي وتنادى باسم (أحمد)، وسميرة التي لا تزال ترتدي زي أنثى بشعر طويل منسدل وباسمها الحقيقي؛ فالأولى يقوم الأب بتفصيص حبات الرمان لها في كأس بلوري بينما تقوم الثانية بنفسها بتفصيص الرمان دون أن يعيرها الأب اهتمامًا إلا عندما يأمرها بإحضار الشاي فتقوم دون أن تنبس ببنت شفة بإحضار أبريق شاي وكوبين له ولأحمد/أمينة.
كرة القدم وقميص ميسي علامة أخرى تربط المجتمع الأفغاني بالغرب، وتسهم في إبراز لحظة التحول في حياة أمينة التي تعشق كرة القدم، لكن ظهور علامات الأنوثة عليها يدمر حلمها تمامًا، نلاحظ هنا رمزية تمزيق قميص ميسي الذي ترتديه والذي يدفعها لمجابهة أقرانها من الصبيان دفاعًا عن حلمها. كرة القدم التي تختفي من تحت إبطها في مشهد تعبيري بليغ، ثم تفاجأ بأبيها يمنحها لأختها الصغرى التي احتلت توًّا مكانها كباشا بوش، ويقول لها "هذه [الكرة] لَكِ الآن".
سورة يوسف التي يقرأها أحمد/أمينة بفخر ورمزيتها التي تشير لتفهم صناع الفيلم الكامل للثقافة الإسلامية، فاختيارها كان في محله تمامًا خاصة الآية التي قُرئت: (قالوا ياأبانا ما لك لا تأمنا على يوسف وإنا له لناصحون أرسله معنا غدا يرتع ويلعب وإنا له لحافظون) هذه الآية التي تشير إلى اللحظة الفارقة في حياة سيدنا يوسف عليه السلام، الطفل المقرب من أبيه، والمؤامرة التي حيكت له وانتهت به مهاجرًا تاركًا وطنه رغمًا عنه إلى مصر التي كانت حينها سيدة العالم، وربما يمر هنا بخاطرنا مقارنة أوروبا الحاضر بمصر الماضي كمركز للجوء ومنجى للبشر من أصقاع الأرض.
اللحظة التي كادت الفتاة تتجمد فيها وهي داخل ثلاجة نقل الأطعمة عابرة الحدود، والقطع منها إلى لحظة ارتدائها زي فتاة للمرة الأولى، رمزية التجمد في الحالة الأولى ولحظة التجمد الاستعاري عندما تجد نفسها فقدت كل الامتيازات التي اكتسبتها وهي تمارس حياتها كصبي.
تكنيك التصوير السينمائي جاء واقعيًا وإن كانت واقعيته تغلف تفاصيل رمزية يحسها المشاهد ويفهمها دون أن تكون زاعقة، فعلى سبيل المثال بينما تبدو الإضاءة في مشاهد رحلة هجرة أمينة واقعية مناسبة للمشاهِد الليلية، لكننا نفهم بوضوح سير الفتاة نحو منطقة مظلمة واختفاءها فيها مرة عندما تدفعها أمها للهجرة ومرة عندما تهرب من حرس الحدود الإيرانية. كذلك تبدو الإضاءة منطقية في المشهد الذي تجلس فيه أمينة مع والدها وأختها الصغرى، الأب في المنتصف وأمينة بشخصية صبي على يسار الكادر بينما الأخت الصغرى على اليسار، لكن مع هذه الواقعية الظاهرة نجد الضوء المباشر الساطع الداخل من النافذة يضيء وجهي الأب والباشابوش أمينة، بينما الفتاة الصغيرة مضاءة بالإضاءة العامة الغير مركزة الشائعة في الغرفة مما يرمز لمكانتها الاجتماعية ومكانة المرأة عامة في الأسرة الأفغانية الصغيرة.
الموسيقى والمؤثرات الصوتية أيضًا لعبت بنفس نهج التصوير، رمزية مغلفة بالواقعية مما يجعلها سلسة سهلة الإدراك ومشبعة بالمعاني والأحاسيس في نفس الوقت.
المونتاج من العناصر المهمة التي يجب الإشارة إليها، فقد حافظ طوال الوقت على انتقالات قوية بين المَشاهد وُظِّفَت لمَنحِها الحيوية كلُّ عناصر الصورة والصوت التي جعلت الفيلم متدفقًا بعنفوان مفعمًا بالديناميكية.
استطاعت سيرينا توندو تقديم فيلم رقيق غني بالتفاصيل، مشبعًا بالمشاعر، له قضيته التي يوصلها بلطف من خلال نص بصري أخاذ يصل إلى القلب لأنه، كما نقول في مصر "خارجٌ من القلب".