مرحبًا بكم في ديدالوم مجمع الفنون

منصة الفن والأخبار الثقافية الرائدة

أحدث الأخبار والمقالات

‏إظهار الرسائل ذات التسميات film. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات film. إظهار كافة الرسائل

الاثنين، مارس 03، 2025

دعوة لتقديم الأعمال للمهرجان الدولي الحادي والعشرون للسينما والفيديو التجريبي بكرواتيا

21st INTERNATIONAL EXPERIMENTAL FILM AND VIDEO FESTIVAL

 

  دعوة لتقديم الأعمال للنسخة الحادية والعشرين من مهرجان 25 FPS. قدم أفضل ما لديك (وأفضل الأفلام) وتأكد من تقديم أعمالك المفارقة وغير النمطية بحلول 30 مايو 2025.
من المقرر أن يقام المهرجان في زغرب من 23 إلى 27 سبتمبر في Kino Kinoteka.

قدم هنا


مهرجان 25 FPS
يعرض مهرجان 25 FPS أفلامًا مستقلة وغير تجارية تستكشف بشكل مبتكر إمكانيات اللغة السينمائية والسرد والوسيلة نفسها، وتتقاطع مع أنواع الأفلام وأنواعها وتوسع مفهوم الفيلم كفن. كما يعزز المفاهيم الأصلية المعبرة، ويتقدم من حيث الموضوع والفكرة والجماليات، بالإضافة إلى الأعمال التي تخلد تقليد الفيلم الطليعي والتجريبي.

الأقسام الرئيسية للمهرجان هي:
برنامج المنافسة
  مجموعة مختارة من الأعمال الجريئة والتأملية من جميع أنحاء العالم. يتم توزيع ما لا يقل عن خمس جوائز من قبل لجنة التحكيم الكبرى ولجنة النقاد والجمهور. الجائزة الكبرى التي تمنحها لجنة التحكيم الكبرى هي جوائز نقدية.

اختيار لجنة التحكيم
  لجنة التحكيم الكبرى هي مجموعة من ثلاثة مؤلفين وصانعي أفلام ونقاد وأمناء ومبرمجين محليين ودوليين. كل منهم يصمم برنامجًا خاصًا للمهرجان - مؤلفين واستعراضات وطنية أو برامج مواضيعية.

السينما الموسعة
  العروض السمعية والبصرية التي يتم فيها إثراء مشاهدة الفيلم برموز من وسائل أخرى: المسرح أو الموسيقى أو النحت. غالبًا ما يشمل العرض الجمهور والأجهزة والفنانين أنفسهم.

التأملات
  اختيار سنوي للإنتاجات الكرواتية المبتكرة. يروج البرنامج للعناوين الجريئة التي يعمل مؤلفوها في الفنون البصرية وأنواع الأفلام المختلفة مع النهج غير التقليدي للشكل والسرد. بالشراكة مع GreenDCP، تمنح جمعية 25 FPS جائزة GreenDCP لأفضل فيلم.

قصيدة للفيلم
  تُعرض أعمال سينمائية طليعية متميزة تأتي كمقدمات لبرامج المنافسة، وتُظهر وتحتفي بالخصائص الكيميائية الضوئية للفيلم، ومهارات الأفلام المصنوعة يدويًا، وفن السينما التجريبية عبر التاريخ.

الجوائز
ثلاث جوائز كبرى: 500 يورو
يمنح كل عضو من أعضاء لجنة التحكيم الدولية جائزته الكبرى الخاصة.

جائزة النقاد
منذ عام 2007، يوزع ثلاثة نقاد سينمائيين أو منظرين للفنون البصرية جائزة أفضل فيلم.

جائزة Green DCP
يوفر منظم المهرجان تنسيق DCP احترافيًا للفيلم القصير. الخدمة مضمونة من قبل شركة Green DCP.

جائزة الجمهور
أفضل فيلم وفقًا لأصوات الجمهور.


الأربعاء، يناير 22، 2025

الفيلم الإيطالي أمينة وخاصية انفتاح الفيلم القصير

 

Amina Serena Tondo


  الانفتاح هو خاصية مهمة- فيما يبدو لي- تسهم في نجاح الأفلام القصيرة وقد لا تكون مهمة للغاية في الأفلام الطويلة التي قد تمتاز- على عكس ذلك- بالانغلاق على نفسها، وهي رفاهية لا يملكها الفيلم القصير.


  للتوضيح؛ نستطيع أن نتخيل الفيلم الطويل ككرة تشبه الكرة الأرضية، حيث يبدأ الفيلم عند نقطة محددة على سطحها ثم يتشعب من خلال أحداثه وشخصياته ودوافعهم وصراعاتهم فيتدفق في مسارات متعددة كأنها طرق أو أنهار على السطح، تسير متوازية حينًا ومتقاطعة حينًا وربما متعرجة أو مستقيمة أو متشعبة، وقد تصعد في الفضاء ثم تنزل مرة أخرى، وقد تكون متواصلة أو متقطعة لكنها جميعًا تلتقي في آخر الأمر عند نقطة واحدة حيث تكتب: (النهاية).


  الفيلم القصير على خلاف ذلك، يسير- فيما يشبه خط الزمن أو الTime Line- مسارًا واحدًا له بداية ونهاية، لكن على مدى هذا المسار القصير توجد العديد من النقاط التشعبية التي يمكن اعتبارها بلغة عصر الإنترنت (Hyberlinks) تتفرع كشجيرات أو أشجار تختلف امتداداتها التي قد تنتهي عند نقاط محددة، أو لا تنتهي على الإطلاق في الحيز المرئي والمسموع والمتخيَل (حيز التلقي) للمشاهد، قد تمتد هذه التفريعات إلى ذاكرة المتلقي لتقتبس منها ما هو مشترك وجمعي ومعروف بالضرورة عند صانع الفيلم ومتلقيه على السواء، وقد تمتد إلى عوالم وعي المتلقي أو لاوعيه لتنهل مما لم يتخيله حتى صانع الفيلم لتنتج دلالات جديدة قد تجعل من كل حالة مشاهدة للفيلم القصير تجربة فنية متميزة لكل مشاهد على حدة قد تختلف حتى عن تجربة جاره في صالة العرض.


  للفيلم القصير مدى زمني محدود قد لا يزيد عن بضعة دقائق أو في أقصى الظروف أقل من خمسين دقيقة، لكن انفتاح هذا المدى يتيح للمتلقي عالمًا لا يقل طولا عن أي فيلم طويل، وهو ربما يكون أعمق أثرًا من كثير من الأفلام الطويلة التي تبدأ تجربة مشاهدتها والتمتع بها وتنتهي داخل دار العرض، أما الفيلم القصير المنفتح قد يحفز المشاهد على استمرار المعايشة والتفكير في غوامضه ومناقشتها مع الآخرين بعد المشاهدة بزمن طويل. لذلك يكون على صانع الفيلم إدراك ذلك للاستفادة من هذه الخاصية، وربما على منظمي عروض الأفلام القصيرة خاصة في المهرجانات أن يدركوها حتى يتركوا دقائق بين كل فيلم قصير والذي يليه (وهو ما لا يحدث عادة في جدولة عروض الأفلام القصيرة) تسمح للمتلقي بالتشبع من تجربة المشاهدة مهما كان الفيلم قصيرًا.

Amina,Serena Tondo,short,film,italian,Italy,ahmed salah eldeen taha,


  في أمينة، الفيلم الإيطالي القصير لمخرجته سيرينا توندو، نجد مثالا جيدًا لهذه الخاصية. الفيلم يتناول رحلة لفتى أفغاني (نكتشف لاحقًا أنه فتاة) تعبر الحدود من أفغانستان إلى إيطاليا مارة بإيران وصربيا حتى تصل أخيرًا وجهتها، أو بر الأمان الذي تتلقاها عنده مسعفتان بوجهين ملائكيين (إحداهما هي- في الحقيقة- المخرجة نفسها). تسألانها عن اسمها فتجيبهما (آمنة). خلال هذه الرحلة التي تستغرق ليلة أو عدة ليالٍ؛ يسير الفيلم في خط زمني بسيط متسلسل، لكن مع ذلك يتشعب مرات عديدة ليفتح الأفق أمام المتلقي عن طريق أربع مشاهد استرجاع للذاكرة (فلاش باك) من خلال رؤى بعضها أحلام غفوة إثر الإرهاق وبعضها أحلام يقظة نتيجة الألم. من خلال مشاهد الذاكرة هذه نستكتشف الحياة في قرية أفغانية، ونواجه الآمال والأحلام والبراءة المشبعة بالبهجة لدى أطفال ذلك المجتمع الذين لا يختلفون عن أقرانهم في أي مكان آخر من العالم، ثم نرى حال أسرة أفغانية ميسورة نوعًا ما، ونعرف موقف المجتمع من المرأة؛ فتاة صغيرة وامرأة ناضجة. نتعرف على قوة الأب/الرجل في المجتمع الأفغاني وسلطته والمزايا التي يتمتع بها الطفل الذكر مقابل الطفلة الأنثى، ونشهد معنى كيف يتغلب المجتمع على القيود الثقافية المفروضة على أفراده عن طريق الحيلة. رحلة تستغرقنا حتى ينكشف لنا أخيرًا موضوع الفيلم الذي هو رحلة البطلة لاكتشاف هويتها الجندرية والتعايش مع حقيقتها الجنسية الطبيعية.

Amina,Serena Tondo,short,film,italian,Italy,ahmed salah eldeen taha,


 

  يبدأ الفيلم مع مجموعة من المهاجرين غير الشرعيين الذين يقعون في أيدي حرس الحدود بين أفغانستان وإيران، وبينما يعنفهم أحد الجنود الذي يبدو أنه يريد أن يخرج منهم بغنيمة مالية؛ يحاولون الفرار كل في اتجاه بعضهم يفشل وبعضهم لا نعرف إن كان قد نجح أو فشل، لكننا نتتبع أصغرهم سنًا وأضعفهم جثمانًا فتى أمرد ينجح في الفرار ويصل بمعاونة شخص ما إلى سائق شاحنة يعمل في نقل الأطعمة بين الحدود الصربية والإيطالية الذي يوافق على نقل الفتى مقابل مبلغ من المال يتلقاه مقدمًا، فيجد الفتى نفسه داخل حاوية السيارة التي هي ثلاجة ضخمة. يصيبه الرعب في البداية لكنه لا يلبث أن يسكن ويبدأ الإرهاق والبرودة الشديدة في جعله يسترجع ذكرياته فنكتشف معه حياته التي بدت سعيدة حيث هو في بيته فتى مفضل لدى أبيه، شغوف بلعب الكرة، متفوق بين أقرانه يرتدي قميص ميسي ويحقق الانتصار لفريقه حتى فجأة تأتي المعرفة كما اعتدنا في التراجيديات لتقلب سعادته بؤسًا حيث نكتشف ويكتشف أقرانه في الملعب أنه أنثى. هو نفسه فيما يبدو لم يكن يدرك هذه الحقيقة البيولوجية. هنا تتغير إزاءه كل الحياة وتنتكس مواقف الجميع؛ أصدقاؤه يهاجمونه ويطردونه بعد أن يكيلوا له الاهانات فيما عدا صديق واحد مقرب إليه. وفي المنزل يظن أن ظهور علامات الأنوثة عليه ليس إلا تجربة جديدة يخوضها أو تخوضها، لكنه يفاجأ أنه يتم استبداله بعد أن ارتدى الملابس النسائية وتحل محله أخته الصغرى التي كانت مهمشة حتى هذه اللحظة لكن الأبوين هنا يقومان بقص شعر الأخرى ووضعها داخل حُلة صبيانية وتغيير اسمها من سميرة إلى سمير، ويصبح مسموحًا لها بالخروج إلى الملعب بصحبة (نظير) الذي كان قبل قليل الصديق الوحيد المخلص للكبرى التي كانت أحمد فأمست أمينة. الوضع الذي جعلها تشعر بالعجز والصدمة، لكن ما الحيلة؟! لم يمد لها أحدٌ يدَ العون إلا الأم التي بادرت مرغمة مقهورة على دفع ابنتها بعيدًا للهجرة، أعطتها المال وصرخت في وجهها والدموع تملأ مقلتيها: "لا تعودي إلى هنا أبدًا"، ومن هنا بدأت رحلة أمينة إلى إيطاليا حيث يمكنها أن تعيش بهويتها الجنسية الحقيقية دون أن تشعر باضطهاد (من وجهة نظر صناع الفيلم).

 

Amina,Serena Tondo,short,film,italian,Italy,ahmed salah eldeen taha,


 

  قد يشعر المتلقي بغموض في الأحداث، لا يزول إلا مع نهاية الفيلم حيث تُفسِّر صانعتُه الموضوعَ من خلال نص مكتوب في صورة تترات بَدَتْ طويلة للغاية. ربما لجأت المخرجة لهذه الحيلة المقحمة على السياق كي تكون رسالتها واضحة وفي نفس الوقت لا تسترسل في السرد السينمائي الذي قد يحتاج مدة طويلة لعرض القضية، وبالفعل سيكون مهمًا بالنسبة للمشاهد البعيد عن الثقافة الأفغانية- حتى يفهم الفيلم- أن يكون ملمًا نوعًا ما بفكرة عن ما يسمى ب (الباشا بوش).


  الباشا بوش Bacha Posh، وتنطق أيضًا بچه پوش عند بعض القوميات الأفغانية؛ هي ممارسة قديمة في بعض المناطق من أفغانستان وباكستان. تعني أن العائلة التي لم تُرزق بطفل صبي تختار إحدى بناتها فتجعلها ترتدي زي صبي وتمارس حياتها كصبي حتى تنسى تمامًا وينسى كل المحيطين بها كونها أنثى، لكن عندما تصل إلى سن البلوغ وتبدأ أنوثتها في الإفصاح عن نفسها يصبح عليها أن تعود إلى طبيعتها الجنسية التي خلقت عليها فتجد نوعًا من عدم التقبل، لا هي تستطيع تقبل حياتها الجديدة بسهولة ولا المحيطون بها بخلاف أسرتها يمنحونها فرصة لذلك؛ حيث يمنحها وضعها الأول مزايا عديدة تنسحب من تحت قدميها دفعة واحدة، بعد أن كانت تستطيع الخروج للمدرسة فتتعلم وتخرج إلى الشارع بحرية فيمكنها أن تلعب أو تعمل أو ترافق أخواتها كمَحرَم لهم. كل هذا ينتهي وغالبا يكون ذلك قبل فترة قصيرة من دخولها لتجربة الزواج. تخيل أنها بعد أن كانت تتعامل مع الصبيان كصبي مثلهم ند لهم يكون عليها أن تصبح زوجة لأحد أقرانها هؤلاء!


  غير معروف تمامًا متى بدأ وجود هذه الممارسة، البعض يرجعها إلى أيام اضطرت فيها النساء إلى ارتداء أزياء الرجال للقتال والذود عن أحيائهن في غياب الرجال، والبعض يرجعها إلى لجوء بعض النساء لارتداء زي الحرس حيث كن تقمن على حراسة الحريم لدى الملوك والأمراء. كما يعتقد آخرون أن الأمر كان حلا عمليًا لدى الأسر التي لم ترزق بصبيان خاصة في الطبقات الفقيرة التي تحتاج لإرسال أبنائها الصغار للعمل، وهناك اعتقاد أيضًا أن الأسرة التي يوجد بها باشا بوش يصبح لديها احتمال أكبر ليكون الابن القادم ذكرًا.


  لتتضح الصورة أكثر فهناك ممارسة موازية لهذه في أفغانستان تسمى باشا بازي، وفي مقابل الباشا بوش الذي هو فتاة تعيش بهوية ذكر، يكون الباشا بازي صبي يعيش بهوية أنثى، حيث يمارس الرقص في الاحتفالات وأعمال الترفيه والإمتاع ومرافقة الأغنياء مقابل المال. تُظهره بعض الصور القديمة بشعر طويل وملابس وزينة نسائية ترتبط به حتى سن البلوغ. وفي الحالتين كلتيهما (الباشا بوش والباشا بازي) يصبح من الصعب عليهما التحول المفاجئ إلى طبيعتهما، ورغم الحكايات المأساوية المرتبطة بهذه الممارسات، والمحاولات المستميتة من الحكومة الأفغانية للقضاء على تلك الظواهر المخالفة لتعاليم الإسلام، إلا أنهم لم يستطيعوا القضاء عليها تمامًا.


  قد لا تكون هذه الممارسات معروفة أو مفهومة عندنا أو عند المشاهد الغربي أيضًا. لكن هناك عدة أفلام معروفة عرضت في مهرجانات عالمية وهي متاحة على الإنترنت تناولت موضوع الباشا بوش مثل الفيلم الإيراني باران Baran إخراج ماجد مجيدي عام 2002م الذي يتحدث عن فتاة من أصل أفغاني تضطرها الظروف إلى التخفي في زي صبي لتحل محل أبيها عامل البناء الذي يصاب أثناء العمل ويكون ذلك خيارها الوحيد لتتولى مسؤولية الأسرة. والفيلم الأفغاني أسامة Osama إخراج صديق برمك عام 2003م الذي يتناول قصة عن مراهقة أفغانية بعد وفاة والدها واستيلاء حركة طالبان على الحكم تحتاج والدتها- التي كانت تعمل كممرضة- مَحرمًا (مرافقًا ذكرًا) لتتمكن من القيام بزيارات منزلية لمريض، فتدفع الجدةُ الفتاةَ للتحول إلى مظهر صبي لمصاحبة الأم والخروج للعمل لاحقًا في مطعم صغير لتوفير الطعام للأسرة، لكن لسوء حظها تفاجأ بنفسها وقد أخذت قسرًا مع صبيان البلدة الآخرين؛ لتُضم إلى معسكر تدريب عسكري تابع لطالبان. والفيلمان متاحان على الإنترنت لمن يريد فهمًا أعمق حول هذا الموضوع.


  موضوع الباشا بوش وما يرتبط به من تحول جندري هو المحور الأصلي الذي يدور حوله الفيلم، وهو موضوع غامض بالنسبة للمشاهدين حول العالم؛ الفيلم لا يزيل بدءًا هذا الغموض الذي يؤكد لنا خاصية الانفتاح في الفيلم القصير التي تكلمنا عنها، فالفيلم هنا يمتد إلى ما هو خارج أحداثه التي تتناول رحلة هروب لأحد المهاجرين من موطنه إلى وطن بديل، لكنه بعيدًا عن قضية الهجرة يمد تفرعاته الشجرية إلى تساؤلات أخرى تتعلق بتعايش المراهق أو المراهقة مع خصائصهما الجندرية والفرق بين الجندر الذي هو حالة ثقافية والجنس الذي هو بنية فيسيولوجية. ودور المجتمع والأسرة والبيئة الثقافية في زرع تصورات الإنسان عن نفسه وقدرته على التعايش مع ذاته كحالة فريدة بين أقرانه، وأيضًا كوحدة متكررة من الحالات الفريدة تُكوّن المجتمع ككل.


  سيرينا توندو المخرجة والكاتبة المشاركة والممثلة أيضًا التي تظهر في المشهد الأخير من الفيلم كمسعفة تلتقي البطلة عند وصولها إلى هدفها؛ مع ظهورها هذا تفصح للجمهور عن رسالة الفيلم بنص (طويل) مكتوب قبل التترات النهائية يلقي الضوء عن ممارسة الباشا بوش، ورسالةً من أم أفغانية عاشت في مراهقتها تجربة الحياة في زي صبي وبأسلوب الصبيان. هذا النص المقحم الذي فسر غموض الأحداث نعتبره، رغم أهميته في إيصال الرسالة؛ انقلابًا على فنية الفيلم القصير لأنه- نستطيع أن نقول- أغلق أحداثه، أوصل المشاهد إلى نقطة (النهاية) التي لن يجد سببًا بعدها للاستمرار في التفكير حول الفيلم أو طرح مزيد من التساؤلات. وبما أن الحياة اختيار، وصناعة الأفلام أيضًا خيار صانعه نستطيع أن نقول إن سيرينا توندو مالت لمفهوم الفن كرسالة بدلا من الفن كفن خالص، لكنها مع ذلك لم تغفل الاستفادة من خاصية الانفتاح في الفيلم القصير فتركت أحداثه منفتحة طوال الفيلم، ولم تلجأ إلى إغلاقها (تفسيرها) إلا مع تترات النهاية.

Amina,Serena Tondo,short,film,italian,Italy,ahmed salah eldeen taha,


المفقود والمضاف في الترجمة

  عندما تتم ترجمة نص من لغة إلى أخرى، عادة لن يكون النص المحدَث في اللغة المترجم إليها مطابقًا تمامًا للنص الأصلي وهي معضلة يواجهها دائمًا المترجمون ويحاولون التغلب عليها ومع ذلك فتلك غاية مثالية لم يصل أحدهم إليها من قبل، لأن اللغة ليست مجرد كيان مرن يمكن تحويله من صورة لأخرى، إنها حاوية تحمل في طياتها ثقافة وتاريخًا وحياة كاملة لكاتبها والمجتمع الذي نشأ فيه والعصر الذي ظهر فيه وغير ذلك. 


  فيلم أمينة الذي نستطيع أن نطلق عليه (فيلم حدود) يتناول لحظة من حياة البطلة اجتمع فيها كونها عالقة بين حدود عديدة؛ الحدود بين أفغانستان وإيران، الحدود بين صربيا وإيطاليا، الحدود بين آسيا وأوروبا، الحدود بين مجتمعين (عالَمين) كل منهما مجهول تمامًا أو غائم جزئيًا بالنسبة للآخر، والحدود بين الطفولة والبلوغ، وأيضًا الحدود بين الأنوثة والرجولة. كل هذه الحدود جعلت وستجعل هناك مساحة غير محدودة للالتباس لدى المتلقي الذي يسمع حوارات تتداخل فيها لغات عديدة: البشتوية والفارسية والإيطالية والإنجليزية والعربية أيضًا، بالإضافة إلى لغة العيون والنظرات والرموز المرئية المرتبطة ببيئة الفيلم المكانية والزمانية، وثقافة صانع الفيلم أيضًا الذي يقوم بدور الوسيط بين واقع الأحداث وعالم الفيلم والجمهور في طرف آخر، ومع كل تلك اللغات بعلاماتها وإشاراتها، دوالها ومدلولاتها؛ لن يكون تلقي الفيلم تجربة متكافئة عند جميع المتلقين، عندنا في العالم العربي مثلا لن يكون مثل أفغانستان وإيران في الشرق، كما أن المشاهد الغربي خاصة في بلد إنتاج الفيلم (إيطاليا) سيكون تلقيه مختلفًا تمامًا، وبما أننا في عصر الإنترنت، ذلك العصر الذي زالت فيه حواجز الجغرافيا واللغة، سيبقى الالتباس في أقصى صوره لأن فرص تفسير الفيلم تتعدد بتعدد مشاهديه. ومن أهم أسباب هذا الالتباس تعدد اللغات التي نسمعها تتردد في الفيلم.


  الالتباس في فهم اللغة قد يضيع بعض المعاني والمقاصد كما أنه قد يضيف أيضًا معاني لم تَجُل بخاطر صانع الفيلم، وذلك ما حدث عندما نطقت البطلة اسمها آخر الفيلم وهي بين يدي المسعفتين تسألانها عنه فتقول لهم بسعادة غامرة وكأنها تتنفس الصعداء: "آمنة"! بالنسبة للمشاهد الإيطالي مثلا سيمر عليه الاسم وكأنه لا يختلف عن اسم البطلة التي يحمل الفيلم اسمها، لكن بالنسبة للمشاهد العربي سيكون هناك فرق شاسع بين (أمينة) و(آمنة) والاسمان أصلهما عربي، ورغم أنهما اشتقاقان من مصدر واحد إلا أن الأول يعني أنها تحمل أمانة أما الثاني فيعني أنها وصلت بر الأمان.. ترديد صدى الاسمين في الذهن العربي يمثل استعارة بليغة تفسر الأحداث وتضيئها، فالفتاة التي كانت أمينة على سر أسرتها وسرها لا تبوح به لأحد وتحمله بجهد وكدّ، صارت الآن آمنة لا تخشى من أي تبعات لانكشاف السر.. اليومَ، آمنة يعني متحررة من همومها والتزاماتها الأولى.


  لكن أيضًا لا يغيب عنا أن أخطاء قراءة أمينة للقرآن وهي إلى جوار أبيها الذي يهز رأسه برضى وسعادة بمستواها في التعلُّم، لن تمر مرور الكرام على المشاهد العربي ولا حتى الأفغاني الذي يعيش في أفغانستان. يبدو أن المشاركين في الفيلم من الأفغان ليسوا وثيقي الصلة ببلدهم الأم فأصبحت ألسنهم ثقيلة في قراءة القرآن، مما يشككنا أيضًا في أنهم يتحدثون بلغة الأفغان بشكل سليم، وهو أمر لا أستطيع الحكم عليه لأنني لا أتحدث هذه اللغة، لكنني عندما زرت بلدة جبلية على الحدود بين باكستان وأفغانستان وتسنى لي أن أصلي الجمعة بين أهلها وجدتهم يجيدون قراءة القرآن بفصاحة، لذلك أشك أن يتقبل الأفغان الأصليون هذه القراءة، ومع ذلك فإن الأداء الرائع للممثلين خاصة إلهام حسين سادات (أمينة) وحسين طاهري (الأب) قد يجعلنا إلى حد بعيد نتغاضى عن هذه النقطة الجدلية، بل ربما نتعاطف مع المخرجة التي وجدت نفسها وسط هذا الملتقى الذي تتزاحم فيه كل هذه اللغات، لكنها طبيعة الموضوع.

 

Amina,Serena Tondo,short,film,italian,Italy,ahmed salah eldeen taha,

اللغة السينمائية

  يقدم لنا الفيلم قضية قد تُعتبر إلى حد بعيد شائكة، ليس لكونها سرًا أو أنها ممنوع الحديث عنها؛ لكن تخيَّل أي فيلم غربي أو ممول من الغرب بينما أحداثه تدور في الشرق، ماذا ستكون توقعات المشاهد الشرقي حياله؟! المشاهد الذي ظلت بلاده زمنًا طويلا محتلة ومقهورة ومستنزفة من الغرب، والذي عانى كثيرًا وما يزال من نظريات الأوروبيين التي صوروا أنفسهم من خلالها كنوع أرقى من البشر له حق السيادة على الكون لأن الآخرين إما أن يقبلوا التحضر بالمفهوم الغربي أو أنهم لا يستحقون الحياة. 


  دون شك سيكون المتلقي متربصًا، وستحكم مشاهدته للفيلم نظرية المؤامرة التي لن تسمح للفيلم بأن يلقى تقييمًا موضوعيًا له كفيلم وليس كقنبلة ثقافية معدة للانفجار.


  استطاعت سيرينا توندو بحذق وحرفية أن تتخطى إلى قلب المشاهد من خلال معالجتها الرومانسية وقفزها على المناطق الشائكة، وتعقبها مواطن الإنسانية في القصة التي يتجرد عندها الجميع من أردانهم الثقافية ويتحولون إلى مجرد بشر. قضاياهم وسلوكهم وحيلهم، آمالهم وأحلامهم، صراعاتهم وحتى صدماتهم. كل شيء هو حالة عامة توحد الجميع ويتراخى أمامها المتلقي مطمئنًا إلى تلك الروح البعيدة التي تتناول فكرة عامة تهم الإنسان أيًا ما كان عرقه أو لونه أو معتقده.


  وظفت سيرينا الرموز الثقافية ببراعة، فمثلا الرمان هذه الفاكهة التي تُزرع في جنوب أفغانستان بكثافة وجودة لا تضاهى، والتي تصدّر إلى أوروبا بكميات هائلة، ليس غريبًا أن توظفها في تفجير ذكريات البطلة عن وطنها وهي في طريقها إلى أوروبا، وتوظفها في إبراز أهم مرابط الأحداث والشخصيات عندما تضعنا في مقارنة بين الأختين: أمينة التي تعيش حالة الباشا بوش في زي صبي وتنادى باسم (أحمد)، وسميرة التي لا تزال ترتدي زي أنثى بشعر طويل منسدل وباسمها الحقيقي؛ فالأولى يقوم الأب بتفصيص حبات الرمان لها في كأس بلوري بينما تقوم الثانية بنفسها بتفصيص الرمان دون أن يعيرها الأب اهتمامًا إلا عندما يأمرها بإحضار الشاي فتقوم دون أن تنبس ببنت شفة بإحضار أبريق شاي وكوبين له ولأحمد/أمينة.


  كرة القدم وقميص ميسي علامة أخرى تربط المجتمع الأفغاني بالغرب، وتسهم في إبراز لحظة التحول في حياة أمينة التي تعشق كرة القدم، لكن ظهور علامات الأنوثة عليها يدمر حلمها تمامًا، نلاحظ هنا رمزية تمزيق قميص ميسي الذي ترتديه والذي يدفعها لمجابهة أقرانها من الصبيان دفاعًا عن حلمها. كرة القدم التي تختفي من تحت إبطها في مشهد تعبيري بليغ، ثم تفاجأ بأبيها يمنحها لأختها الصغرى التي احتلت توًّا مكانها كباشا بوش، ويقول لها "هذه [الكرة] لَكِ الآن".


  سورة يوسف التي يقرأها أحمد/أمينة بفخر ورمزيتها التي تشير لتفهم صناع الفيلم الكامل للثقافة الإسلامية، فاختيارها كان في محله تمامًا خاصة الآية التي قُرئت: (قالوا ياأبانا ما لك لا تأمنا على يوسف وإنا له لناصحون أرسله معنا غدا يرتع ويلعب وإنا له لحافظون) هذه الآية التي تشير إلى اللحظة الفارقة في حياة سيدنا يوسف عليه السلام، الطفل المقرب من أبيه، والمؤامرة التي حيكت له وانتهت به مهاجرًا تاركًا وطنه رغمًا عنه إلى مصر التي كانت حينها سيدة العالم، وربما يمر هنا بخاطرنا مقارنة أوروبا الحاضر بمصر الماضي كمركز للجوء ومنجى للبشر من أصقاع الأرض.


  اللحظة التي كادت الفتاة تتجمد فيها وهي داخل ثلاجة نقل الأطعمة عابرة الحدود، والقطع منها إلى لحظة ارتدائها زي فتاة للمرة الأولى، رمزية التجمد في الحالة الأولى ولحظة التجمد الاستعاري عندما تجد نفسها فقدت كل الامتيازات التي اكتسبتها وهي تمارس حياتها كصبي.


  تكنيك التصوير السينمائي جاء واقعيًا وإن كانت واقعيته تغلف تفاصيل رمزية يحسها المشاهد ويفهمها دون أن تكون زاعقة، فعلى سبيل المثال بينما تبدو الإضاءة في مشاهد رحلة هجرة أمينة واقعية مناسبة للمشاهِد الليلية، لكننا نفهم بوضوح سير الفتاة نحو منطقة مظلمة واختفاءها فيها مرة عندما تدفعها أمها للهجرة ومرة عندما تهرب من حرس الحدود الإيرانية. كذلك تبدو الإضاءة منطقية في المشهد الذي تجلس فيه أمينة مع والدها وأختها الصغرى، الأب في المنتصف وأمينة بشخصية صبي على يسار الكادر بينما الأخت الصغرى على اليسار، لكن مع هذه الواقعية الظاهرة نجد الضوء المباشر الساطع الداخل من النافذة يضيء وجهي الأب والباشابوش أمينة، بينما الفتاة الصغيرة مضاءة بالإضاءة العامة الغير مركزة الشائعة في الغرفة مما يرمز لمكانتها الاجتماعية ومكانة المرأة عامة في الأسرة الأفغانية الصغيرة.


  الموسيقى والمؤثرات الصوتية أيضًا لعبت بنفس نهج التصوير، رمزية مغلفة بالواقعية مما يجعلها سلسة سهلة الإدراك ومشبعة بالمعاني والأحاسيس في نفس الوقت.


  المونتاج من العناصر المهمة التي يجب الإشارة إليها، فقد حافظ طوال الوقت على انتقالات قوية بين المَشاهد وُظِّفَت لمَنحِها الحيوية كلُّ عناصر الصورة والصوت التي جعلت الفيلم متدفقًا بعنفوان مفعمًا بالديناميكية.


  استطاعت سيرينا توندو تقديم فيلم رقيق غني بالتفاصيل، مشبعًا بالمشاعر، له قضيته التي يوصلها بلطف من خلال نص بصري أخاذ يصل إلى القلب لأنه، كما نقول في مصر "خارجٌ من القلب".


أحمد صلاح الدين طه

الأربعاء 22 يناير 2025

dedalum.info@gmail.com

 

Amina,Serena Tondo,short,film,italian,Italy,ahmed salah eldeen taha,

Amina,Serena Tondo,short,film,italian,Italy,ahmed salah eldeen taha,

Amina,Serena Tondo,short,film,italian,Italy,ahmed salah eldeen taha,

Amina,Serena Tondo,short,film,italian,Italy,ahmed salah eldeen taha,

Amina,Serena Tondo,short,film,italian,Italy,ahmed salah eldeen taha,

Amina,Serena Tondo,short,film,italian,Italy,ahmed salah eldeen taha,

Amina,Serena Tondo,short,film,italian,Italy,ahmed salah eldeen taha,

Amina,Serena Tondo,short,film,italian,Italy,ahmed salah eldeen taha,

Amina,Serena Tondo,short,film,italian,Italy,ahmed salah eldeen taha,

Amina,Serena Tondo,short,film,italian,Italy,ahmed salah eldeen taha,

Amina,Serena Tondo,short,film,italian,Italy,ahmed salah eldeen taha,

Amina,Serena Tondo,short,film,italian,Italy,ahmed salah eldeen taha,

 

الثلاثاء، يناير 14، 2025

عرض ثانٍ لفيلم "رصيف بيروت" في سينما زاوية بالقاهرة استجابةً لطلب الجمهور

 

الفيلم الوثائقي رصيف بيروت فرح الهاشم سينما زاوية


تستضيف سينما زاوية بالقاهرة العرض الثاني للفيلم الوثائقي "رصيف بيروت" يوم الثلاثاء 28 يناير 2025، في تمام الساعة السابعة مساءً، بعد النجاح الكبير الذي حققه العرض الأول. يأتي هذا العرض استجابة للإقبال الجماهيري الكبير الذي شهده العمل، ويعكس أهمية الفيلم كأحد أبرز الإنتاجات الوثائقية في الفترة الأخيرة.

الفيلم، الذي أخرجته المخرجة والصحفية فرح الهاشم، حصد جائزة أفضل فيلم وثائقي في مهرجان السينما الوثائقية بطهران. ويروي العمل قصة مؤثرة تجسد واقع المنطقة في ظل الأزمات السياسية والإنسانية، من خلال رسالة موجهة من بيروت إلى الصحفي الراحل عصام عبد الله، الذي فقد حياته جراء صاروخ إسرائيلي خلال الحرب الإسرائيلية-اللبنانية في أكتوبر 2024. يمزج الفيلم بين وجع بيروت وآلام القدس، ويُبرز أبعاد القضية الفلسطينية من منظور فني وإنساني.

نبذة عن المخرجة فرح الهاشم
فرح الهاشم هي مخرجة وصحفية كويتية-لبنانية، تُقيم في باريس. بدأت مسيرتها السينمائية في عام 2011، وهي حاصلة على درجة الماجستير في السينما والفنون الجميلة من أكاديمية السينما في نيويورك، بالإضافة إلى ماجستير في تاريخ السينما من جامعة السوربون - بانثيون 1.
تميزت أفلامها بتسليط الضوء على قضايا اجتماعية وسياسية هامة، وحازت على العديد من الجوائز الدولية. من أبرز أعمالها الفيلم القصير "7 ساعات" وفيلم "ترويقة في بيروت"، الذي لاقى إشادة كبيرة في المهرجانات السينمائية وحصل على تكريم من وزارة الثقافة اللبنانية.

تفاصيل العرض:

  • التاريخ: الثلاثاء 28 يناير 2025
  • الوقت: الساعة السابعة مساءً
  • المكان: سينما زاوية، القاهرة

حول الفيلم:

  • العرض الأول: مهرجان وهران للفيلم العربي في الجزائر – أكتوبر 2024
  • المخرجة: فرح الهاشم

يُعد هذا العرض فرصة مميزة للجمهور المصري للاستمتاع بفيلم يحمل في طياته رسالة عميقة عن واقع المنطقة، ويدعو إلى التفكير في قضايا إنسانية وسياسية ملحّة.

لمزيد من التفاصيل وحجز التذاكر، يمكنكم زيارة الموقع الرسمي لسينما زاوية.

الجمعة، يناير 03، 2025

دمية بيرني.. إنسان العصر وتاريخه البائس في فيلم كارتون

 Berni’s Doll

 دمية بيرني.. إنسان العصر وتاريخه البائس في فيلم كارتون

Berni’s Doll,shorts



  هذه من أكثر النكات التي قد تمر عليك في حياتك بؤسًا، ووجعًا وكآبة وإيلامًا. عندما ينتهي تاريخك العاطفي، وتتداعى خرافاتك الوجدانية فجأة في لحظة مكاشفة يلفظك فيها شريك عمرك ويفر منك فرار الناس من الوباء دون إدراك منك للتغير المفاجئ من المحبة المفرطة إلى العداء المتأجج.. من متيم بك يسهر الليالي، يعد اللحظات حتى يلقاك، إلى ناقمٍ نافرٍ يرمح بعيدًا في اتجاه أفق ملبد بالغموض دون تفسير منطقي سوى أنه رآك للمرة الأولى.. على حقيقتك.

 

  في فيلم الكارتون الفرنسي القصير (دمية بيرني) من إخراج (يان جُوِيت Yann Jouette) نرى عالَمًا أورويليًا بائسًا يذكرنا إلى حد بعيد بالمستقبل الذي تخيله جورج أورويل للإنسانية في روايته 1984، وربما ذكرنا أيضًا بما تصوره الروائي المصري صبري موسى شكلًا لحياة بطل روايته المأساوية التي تدور في المستقبل، رواية (السيد من حقل السبانخ)، لكن الفيلم هنا لا يدور في المستقبل، ربما لأننا بالفعل نعيش في عصر ما بعد المستقبل الذي تصوره الكاتبان السابقان في روايتيهما المذكورتين، وربما أيضًا لأن الكارتون حالة خاصة من الفن السينمائي يمكن فيها أن يكون الفيلم واقعيًأ وتعبيريًا ورمزيًا، حاضريًا ومستقبليًا في نفس الوقت؛ يدور في عوالم غرائبية كقصيدة من شعر النثر دون أن يتخلى عن إيقاع الواقعية ووضوح الطبيعية وتفاصيلهما المفرطة في الدقة.

 

  يدور الفيلم حول بيرني، ذلك العامل البسيط في مصنع لإنتاج طعام القطط، في طبقة وسطى من المصنع يقوم بعمل روتيني هو وضع الأغطية على العلب في آخر خط الإنتاج الذي يتم كله آليًا تمامًا، أو على الأقل لا نرى في المصنع أي عامل آخر- إلا فيما ندر- غير بطلنا.

 

  يواجه بيرني مشكلة تتعلق بحاجاته العاطفية حيث لا يستطيع في خضم حياته الروتينية إقامة أي صلة طبيعية تقليدية بالجنس الآخر، مما يسبب له مشاكل في عمله حيث يجازى لأنه مهمل في عمله. لكن حياته تتغير تمامًا بعد أن يشاهد إعلانًا عن بيع دمى جنسية تمثل جذع امرأة مكسيكية أو أفريقية أو آسيوية، فيقرر أن يشتري الأفريقية لأنها الأرخص، لكنها مع ذلك تكلفه بيع سيارته حتى يدبر ثمنها، وما إن تصل إليه في طرد بريدي حتى تقلب حياته رأسًا على عقب فيتحول إلى عامل نشيط مجتهد، ويتغير تقييمه في المصنع تمامًا حيث يلاقي ثناء رؤسائه الذين يراقبونه من خلال كاميرا مسلطة عليه طوال ورديته، يكافئونه عن بعد من خلال كف آلية تهبط إليه لتربت رأسه، ومرة أخرى تأتي لتنتشله من طبقته وترفعه درجة أخرى حيث يتحول إلى مشرف إداري يتولى هو هذه المرة المراقبة من مكتب مريح مزود بجهاز كمبيوتر وإنترنت.

 

  التطور الذي يطرأ على حياة بيرني بفضل عروسته غير المكتملة يدفعه إلى تطويرها، وإذا كان في المرة الأولى اشترى الجذع الأفريقي لأنه الأرخص، فهذه المرة بعد أن كسب المال وترقى في العمل يشتري ذراعين مكسيكيتين قويتين فيدب النشاط في شريكته الدمية وتبدأ خدمتَه بنشاطٍ في المنزل مما يدفعه وهو جالس مؤنتِخ يقرأ الصحف ويراقبها تقوم بالأعمال المنزلية إلى أن يفكر في شراء ساقين يساعدانها في الحركة؛ فيشتري لها ساقين آسيويتين سريعتين، وهكذا يكتمل الجسد، لكنه ما يزال ينقصه شيء ما، لا يلتفت إليه بيرني لكن افتقاده يؤرق شريكته المستميتة في خدمته ألا وهو الرأس، فيقرر أخيرًا أن ينتقي لها رأسًا مناسبًا، وعندما يركّبه فوق جسدها وتفتح عينيها للمرة الأولى في حياتها تراه ذلك الشخصَ رث الهيئة القبيح النهم، وترى كل المواقف التي مرت عليها في حياتها معه بشكل مغاير حيث تفكر أنه استغلها جنسيًا وخدمها أو استعبدها عنده وعاملها بقسوة، وهنا تقرر الفرار منه فتتركه وحيدًا متألمًا بعد أن كان توهم أنه وجد شريكته الأبدية ووقع في هواها وصار متعلقًا بها متيمًا في حبها.

 

  الفيلم على قصره حيث لا يزيد عن إحدى عشرة دقيقة، يفتح أبواب التأويل والتفسير على مصراعيها. يتركنا بأصالة فنية محتارين بين مجموعة من تساؤلات التلقي يطرحها على عقولنا دون أن يستجوبنا فيها.. فقط يتركنا نتداولها مع أنفسنا وينصرف انصراف الفنانين الصادقين.

 

  يبدأ الفيلم بفأر تقوده غريزته عبر ممرات محددة له سلفًا، يجري بغير وعي متتبعًا رائحة قطعة من الجبن وضعت له بدقة في مكان يصل إليه أخيرًا ويبدأ في تناول الجبن، لكنها طبعا كما سيتوقع المشاهد مصيدة آلية ضخمة، حيث تهوي عليه مطرقة مهولة تحوله إلى كتلة من اللحم المفروم والمهروس تنقلها السيور لتعبأ في عبوات قبل أن تصل ليد بطلنا بيرني فيغطيها لتأخذ طريقها إلى القط المحظوظ. في المشهد الأخير بعد أن تدفع الدمية المكتملة برأسها بيرني وتهرب محطمة الباب ذي الأقفال العديدة ينكمش بيرني على نفسه وينام على جانبه في وضع أشبه بالجنين في بطن الأم، أو الوضعية نفسها التي كان البشر يدفنون بها موتاهم في فترات مبكرة جدا من تاريخ الإنسان على الأرض. عندها تبدأ الكاميرا في الارتفاع لنرى المكان من زاوية عين الطائر، وكلما ارتفعت الكاميرا أصبحنا نرى أكثر، ووصلنا إلى يقين أن الشقة التي يسكن فيها بطلنا هي جزء من بناية تكاد ممراتها تتطابق مع المتاهة التي كان يجري فيها الفأر الذي رأيناه في أول الفيلم، إن صانع الفيلم يقدم استعارة بليغة مفادها عرض التشابه بين الفأر وبيرني، البطل، إنسان العصر الحديث، فكل منهما (الإنسان والفأر) يجري بشكل غريزي خلف شهواته، الفأر نحو قطعة الجبن، والرجل نحو المرأة (وقد يجوز- في المطلق- أن نقول: والمرأة نحو الرجل)، من خلال رحلته الحياتية يمر بتجربة جديدة بالنسبة له لكنها تكرارية أبدية بالنسبة للنوع كله، فليست تجربة الفرد إلا حلقة زمنية واحدة وسط سلسلة طويلة من الحلقات المتشابكة تشكل التاريخ، وفي نهاية الرحلة حيث يتصور كل منهما أنه وصل غايته الأخيرة تسقط فوقه المطرقة الضخمة فتفرمه وتحوله قطعة من اللحم المعبأ في انتظار الوصول إلى أنياب الآكلين. 

 

  رؤية عبثية للحياة تؤكد سوداوية الواقع وإحساس اللاجدوى الذي يسيطر على تصور إنسان العصر الحاضر حول وجوده في الوجود ووجود الوجود فيه.

 

  الدمية التي شغلت نصف اسم الفيلم منسوبة إلى بيرني تعطينا دلالات قوية تشير بشكل واضح رغم أنه ضمني إلى مدلولات من السهل على أي مشاهد على قدر محدود من الدراية المعرفية أن يدركها؛ بداية من انتساب الدمية إلى بيرني في العنوان والذي يلغي تفردها ويجعلها تابعًا لمالكها، البطل الذكر المشغول بشهواته والذي يجمعها قطعة قطعة حتى تكتمل أنثى كاملة ناضجة. فكرة ذكرتني مباشرة بإحدى القصص القصيرة - على ما أذكر- للأديب الروسي الرائع أنطون تشيكوف والتي تتحدث عن ضابط شاب يدعى إلى حفل في مكان عام، ومثله مثل بيرني يفتقد الشاب وجود شريكة أنثى في حياته، لكنه غير راضٍ تمامًا عن هؤلاء النسوة اللاتي تملأن القاعة والمستعدات- معظمهن- للاستجابة لأول شاب يدعوهن للرقص، كل واحدة منهن لديها جمال ما لكن لديها عيبًا أو عيوبًا أيضًا، يتساءل الشاب الغرير عن إمكانية حصوله على فتاة كاملة الأوصاف، عينا تلك وأنف أخرى وجسد ثالثة؛ هكذا تصورت أنثاه في عقله، لكن امرأة خياله تلك ليست بين المجتمعات هنا.

 

  بالصدفة عندما يسير في إحدى ممرات القصر حيث الحفل يرى أنثاه المفارقة للواقع تجسدت أمام عينيه، ينبهر ويهرول خلفها متمنيًا أن يلقى منها قبولا كما ملأت قلبه رضى، لكنها كما ظهرت فجأة تلاشت كما لو كانت تبخرت.. يبحث عنها في كل ركن من أركان البيت وكأنه الأمير يبحث عن سندريلا، لكن الأمير في القصص الشعبية القديمة كان أسعد حظًا منه فقد كان بين يديه أثرٌ لمعشوقته المفقودة (فردة حذاء) أما هو فلا حذاء ولا أثر يدله أين اختفى مثاله الغائب، وبينما هو مجد في بحثه تقوده الممرات بعضها إلى بعض؛ يجد نفسه في مكان شديد الحلكة، الظلام يطمس كل شيء، وبينما هو على ذلك الحال يحملق فيما حوله محاولا رؤية أي بصيص من الأمل يفاجأ بصفعة قوية على قفاه تُفقده توازنه للحظات يفيق بعدها فلا يجد أحدًا حوله، فكأن الصفعة تذكره بانعدام فرصة وجود (مثال) على أرض (الواقع). بطلنا هنا في الفيلم أفضل حالًا لأنه يعيش في العصر الحديث؛ حيث تصادفه إعلانات عن أجزاء بشرية (دمى حية بديلة للإنسان) في كل مكان يذهب إليه ليس فقط في التليفزيون لكن حتى اللافتات في الطرق وهو عائد إلى منزله، فاترينات المحلات مليئة بهذه الأجزاء سيقان وجذوع وأذرع، تبدو حيث يعيش بيرني تجارة رائجة للغاية حتى إن بائعة أحد المتاجر اتخذت لنفسها ذراعين إضافيتين تساعدانها على أداء أعمالها في صورة تذكرنا بالإلهة الهندية شاكتي متعددة الأذرع.. بدائل الإنسان في كل مكان، لكنه عندما يقرر؛ يختار نفس ما اهتم به جد أجداده الإنسان البدائي في العصور الموغلة في القدم عندما نحت نموذجًا لمثاله الأنثوي فاختار الجذع المتفجر بملامح الأنوثة وأغفل كل شيء آخر عداه.

 

  يقدم بيرني نموذجًا ليس غريبًا على عصرنا الحديث، إنه الإنسان الذي نراه كل يوم وفي كل مكان نذهب إليه، نراه في العمل وفي الشارع، في وسائل المواصلات والمتاجر الكبرى والصغرى، نراه حتى في المرآة عندما ننظر إليها، الإنسان الذي هو نحن موجود في كل مكان دون أن تعبأ بوجوده الأمكنة، ترس موضوع في آلة يؤدي دوره بتفان وإنكار للذات عودنا عليهما عصر الآلة الجاف وفلسفات الكتل اليسارية واليمينية على السواء؛ الشيوعية والرأسمالية وما بينهما من أفكار طورها شخص غامض لتصبح ملائمة للمجتمعات البشرية الحديثة التي صارت تخضع لها طوعًا أو كرها، ورغم الصراعات والحروب التي تأججت من أجل تفضيل هذه على تلك يبقى جوهرهما واحدًا: السيطرة على الناس وجعلهم قطعًا في آلة صناعية ضخمة. لا يختلف فرد عن آخر إلا بموقعه في الماكينة التي لا تتوقف عن الدوران.. عجلة الإنتاج في الشرق هي هي عجلة الإنتاج في الغرب، الفرق الوحيد بينهما في أن تلك تملكها الدولة وهذه يملكها مديرو الشركات الكبرى، أما الفرد، الإنسان؛ فقد تقطعت صلاته الاجتماعية القديمة الأبدية وتواصله المنفتح مع بني جنسه واستبدلت بها علاقات جديدة قائمة على تبادل المنفعة والوقتية المقيتة، فصار هكذا لا يجتمع أبدًا إلا مع وحدته.

 

  دمية بيرني هي ليست لعبة؛ إن تاريخها الذي يُبنى في الفيلم أمام أعيننا. يمكن اعتباره تمثيلا لتاريخ المرأة وتطور مكانتها في المجتمع عبر الزمن منذ العصر الحجري. المرأة التي بدأ دورها مرتبطًا بالجنس، الدور الذي جعل إنسان العصر الحجري في أوروبا يصورها في- تمثال (فينوس ولندورف) كمثال- جسدًا تكاد تنطمس كل أجزائه فيما عدا الجذع بمكوناته ذات الطابع الشهواني، بعد ذلك يتطور دور المرأة بحصولها على ذراعين قويتين لتتحول إلى خادمة للرجل تؤدي له كل مهام المنزل من طهي الطعام لإعداد الملابس وغيرها، فتتطور معها أيضًا مكانة الرجل من نكرة لا يعرف نفسه ولا يدرك قيمته، إلى سيد يدير المنظومة ويتمتع بخدمات الآخرين، عندما تحصل دمية بيرني على ساقين تبدأ في شراكة حقيقية معه فهي تخرج إلى الشارع وإن كانت ما تزال تخشى عبور الطريق فتضطر دائمًا إلى التعلق بذراعه، وتغار عليه عندما تسمع وقع أقدام أنثى أخرى، وربما تغار من الأخرى التي تملك رأسًا لا تملكه هي. أخيرًا عندما يصبح لديها رأس، يعني عقلا وعينين ولسانًا وشفتين؛ تتمرد، فقد اكتملت بنيتها وأدركت وجودها فتثور أول ما تثور عليه هو، بيرني الذي جمعها قطعة قطعة، بعضها من إعلانات التسويق على التليفزيون وبعضها من الأسواق التجارية والبعض من الإنترنت. لكنها عندما أصبحت أنثى كاملة استعادت ذكرياتها معه وقد بدت كل مواقفه معها عكس ما رأيناه فظهر بيرني مستغلا لها جسديًا ومستعبدًا لها يسخرها لخدمته مجانًا، وأخيرًا قاسي القلب يعاملها بعنف ويحبسها داخل بيت بابه موصد وعليه عدة أقفال لا تعبأ بها فتحطم الباب بعنف يضاهي ذكرياتها المتوحشة إزاءه، تختار أن تصير واحدة مع نفسها، وتتركه وحيدًا مع بؤسه.

 

  دمية بيرني أيضًا تفتح أفق المتلقي لمفهوم آخر عن الدمية، رغم أن الفيلم أنتج في 2008م. ولم نكن وصلنا بعد لما نحن عليه من تسارع في التطور العلمي والتكنولوجي، لكن الفيلم يمكن اعتباره صرخة مبكرة، نبوءة بشأن التطور المرتقب- حينها- للذكاء الإصطناعي وتكنولوجيا الروبوتات المضاهية للبشر والتي صارت واقعًا نعيشه حتى إن بعضها قد يحصل على جنسية إحدى الدول مثلما حدث مع صوفيا المرأة الروبوت التي تحمل الآن الجنسية السعودية. الفيلم يقدم التخوفات المشروعة للإنسان من أن يأتي اليوم الذي يتمرد فيه الذكاء الإصطناعي والروبوتات الذكية على صانعيها.

 

  يدفعنا صانع الفيلم يان جويت Yann Jouette للتعاطف مع بيرني، فهو يجعلنا نرى الحقيقة لحظة بلحظة طوال الفيلم فندرك أن بيرني مظلوم في كل تصورات شريكته في الحياة عن علاقتهما معًا، ويدفعنا بصريًا لإدراك كيف أنه تعرض طوال الفيلم لنفس الخدعة التي قادت الفأر للوقوع في المصيدة. أي أننا نأخذ صف بيرني في علاقته بدميته المتمردة، ونأسى لحاله في علاقته بالنظام العام الذي فرمه (استعاريًا) في النهاية لأن منظومة المصنع تتعامل معه كما تتعامل مع الفأر، الجميع لا قيمة لحيواتهم إلا بقدر ما يحافظون على استمرارية دوران عجلة الإنتاج.

 

  رغم الدقة التي رسمت بها الرسوم المتحركة وصيغت بها حركة الشخصيات الكرتونية إلا أن صانع الفيلم اختار الميل إلى جعلها تعبيرية، فجردها أولا من الألوان معتمدًا على أحادية اللون، وجعلها أقرب للرسوم بالقلم الرصاص، صحيح أنه استخدم تقنية الظل والنور لجعلها مجسمة وهو ملمح طبيعي، إلا أنه اختار أن يحدث انبعاجًا ما يجعل عالمه بعيدًا عن الواقع فتصير رؤوس الشخصيات مثلا أقرب إلى الأشكال الهندسية معظمها تكاد تكون مثلثة، كذلك الأبنية والسيارات والشوارع التي تذكرنا بتشوهات المنظور عند رواد المدرسة التعبيرية الألمانية، وهي مقاربة تؤكد سوداوية الواقع الذي يعيشه إنسان العصر الحديث من وجهة نظر صانع الفيلم.

 

  شريط الصوت أحد العناصر المهمة للغاية في الفيلم، بالإضافة إلى البعد الموسيقي الذي ربما لن يمكنك سماعه منفردًا كما قد تفعل مع تراكات صوت سينمائية أخرى رغم قوتها تكون كيانًا مستقلا موازيًا للفيلم نفسه فيجتهد المونتير ومصمم تراك الصوت في لضمها مع التدفقات السمعبصرية التي تشكل جسد الفيلم؛ الموسيقى هنا، في فيلمنا هذا، مضفرة بعناية كجمل مصاحبة قد لا تستطيع فصلها عن العناصر الفيلمية الصوتية الأخرى فتكمل هذه تلك. المؤثرات الحية والصناعية، والإيقاع الذي تسير عليه كل المنظومة الفيلمية. الذي يصدر بشكل واقعي من العناصر المصدرة للصوت داخل الكادر: خطوات المشي، الحركة والتوقف لسيور المصنع الذين يخلقان معا إيقاعًا رتيبًا يؤكد جفاف الحياة التي يعيشها بيرني. حركة السيارات في الطرق. موسيقى الإعلانات التليفزيونية وصوت الهاتف. الطبول وقرع الأجراس والآلات النحاسية التي تتصاعد وتيرة طرقها بأسلوب يذكرنا باللحظات الحاسمة في عروض السيرك. كل ذلك يشكل تراك صوت قوي جدًا يسهم في التلاعب بإفراز الأدرينالين لدى المشاهد فيصعد مع تدفق الأحداث ويصل ذروتها مع ذروتها ويقف عندما ينتهي الحدث ثم يبدأ دورة جديدة.

 

  اختار مؤلف الفيلم أن يقيم بنيته على أساس دائري فيبدأ حيث ينتهي، يبدأ بالممرات التي صنعت لخداع الفأر حتى يصل إلى المطرقة التي تقضي عليه، وفي نهاية الفيلم نصل إلى الحدث الذي يشكل مطرقة اعتبارية تقضي على البطل بيرني، وهو هروب شريكة حياته منه بعد كل ما بذله في سبيل وجودها، تتركه محطم القلب ممزع الروح كأنه صار كتلة لحم ميت. مثله مثل الفأر الذي بدأ به الفيلم. عندما تصعد الكاميرا في آخر الفيلم نجد الوحدة السكنية التي يعيش فيها البطل ليست سوى واحدة من عدد لا محدود من الوحدات الأخرى المتطابقة معها مما يفتح بوابة أمام المتلقي لتوقع كم هي احتمالات تعدد وتكرار حكاية بيرني اللانهائية.

 

  دمية بيرني فيلم لا أنصحك بمشاهدته إن كنت ممن يعتقدون أن الكارتون يصنع فقط للأطفال.

 

أحمد صلاح الدين طه

الجمعة 3 يناير 2025

dedalum.info@gmail.com

لمشاهدة الفيلم:


الأربعاء، ديسمبر 18، 2024

مجلة سومر السينمائي 18: إضاءات جديدة على السينما البديلة والخيال العلمي

 

سينما من كل الزوايا: صدور العدد 18 من مجلة سومر السينمائي


صدور العدد الجديد من مجلة سومر السينمائي (العدد 18)
 

  صدر مؤخرًا العدد الثامن عشر من مجلة سومر السينمائي، المجلة الشهرية المتخصصة التي تصدر عن مهرجان سومر السينمائي الدولي. يضم العدد الجديد مجموعة غنية من المقالات والدراسات السينمائية لنخبة من الكتّاب والنقاد العرب، تتناول قضايا السينما العالمية والعربية من زوايا نقدية وفكرية مميزة.
 

أبرز الموضوعات:
يتضمن العدد مقالات ودراسات تتناول موضوعات مهمة مثل:

  • السينما البديلة ودورها في تقديم رؤى جديدة.
  • السريالية وأثرها في نقد المجتمع عبر السينما.
  • أفلام الخيال العلمي والميزانسين في السينما المصرية.
  • تأثير النكبة على السينما وأعمال تعيد قراءة التاريخ من زوايا جديدة.
  • دراسات نقدية لأفلام عالمية بارزة وتحليل قضايا السلطة والهوية في السينما.

 

الكتّاب المشاركون:
يضم العدد مقالات لعدد من أبرز النقاد والكتّاب العرب، من بينهم نزار شهيد الفدعم، صفاء زهير، ثناء هاشم، ناجح حسن، هشام الودغيري، محمد بنعزيز، نزار السامرائي، هاني حجاج، وأحمد صلاح الدين طه.


 

عودة قوية لمجلة سومر السينمائي.. أحدث الدراسات وأقلام النقاد

 

للتواصل والاطلاع على المزيد:

  • يمكن متابعة المجلة عبر صفحتها الرسمية على فيسبوك:

Sumer Film Magazine

 

سومر السينمائي 18: دراسات وأبحاث تكشف أسرار الشاشة الكبيرة

 

الخميس، ديسمبر 05، 2024

دعوة للمهتمين حول العالم للتطوع في مهرجان صندانس السينمائي لعام 2025


festivals/sundance-film-festival/volunteer


  دعوة للتطوع في مهرجان صندانس السينمائي لعام 2025

يُعد مهرجان صندانس السينمائي واحدًا من أبرز الفعاليات العالمية التي تحتفي بالإبداع السينمائي المستقل، ويتيح الآن فرصة التطوع للمشاركة في فعالياته التي ستُقام في يناير المقبل. يمكن للمهتمين التسجيل من خلال الرابط التالي: اضغط هنا للتطوع.

في رسالة وجهتها أماندا كيلسو، المديرة التنفيذية بالإنابة، وإيوجين هيرنانديز، مدير مهرجان صندانس السينمائي، أكدت إدارة المهرجان أهمية دعم الفنانين المستقلين الذين يواصلون إنتاج أعمالهم بجرأة وأصالة، رغم التحديات التي تواجه صناعة السينما. وأشارت الرسالة إلى أن مهرجان 2025 سيكون فرصة للتواصل ومشاهدة روايات تحمل معاني إنسانية عميقة وتسلط الضوء على ثقافات وتجارب متنوعة من حول العالم.

كما أكدت الرسالة على دور معهد صندانس في دعم ما يقرب من 1500 فنان خلال العام الماضي من خلال برامج التدريب، المنح، والزمالات، لتمكينهم من إيصال أصواتهم والتواصل مع جمهورهم. وقد أظهرت الإحصائيات تنوع مجتمع الفنانين المدعومين، حيث أن 64% منهم من الفنانين الملونين، و55% من النساء، و41% من مجتمع LGBTQIA، و6% من المتحولين جنسياً، و8% من ذوي الإعاقة.

لذا، إذا كنت ترغب في أن تكون جزءًا من هذا الحدث الاستثنائي وأن تساهم في دعم الفنانين المستقلين، لا تفوت فرصة التسجيل كمتطوع.

#مهرجان_صندانس_السينمائي #تطوع #سينما #فن

الأربعاء، نوفمبر 13، 2024

فيلم آخر لغم.. فاطمة أكلاز توارب باب الأمل

 

فيلم آخر لغم.. فاطمة أكلاز توارب باب الأمل



  قضية قديمة، ومعضلة متجددة تَستحدِث كل يوم ألمًا جديدًا وتبحث في كل لحظة عن أمل جديد أو حتى بصيص أمل احتلت مَشرقَه صانعة الأفلام المغربية فاطمة أكلاز متشبثة به ودافعة إياه كقابلة محترفة تعرف كيف تفسح المجال لخروج النور من خلال فيلمها آخر لغم The Last Mine.

  سأحاول أن أتحاشى الحديث عن فيلمنا هذا مصنفًا إياه كفيلم وثائقي، وهو أيضًا ليس فيلما روائيًا أو تخييليًا، لكنه فقط فيلم سينمائي يستفيد من توثيق الحالات الحقيقية بقدر ما يوظف المشاهد التمثيلية والحوار والمؤثرات الصوتية والنصوص المكتوبة على الشاشة ليغذي جميع حواسنا ويخاطب في ذات الوقت إداراكنا. يغرس في نفس المتلقي وعيًا بقضية الألغام المتروكة بعد الحرب وخطرها الذي يطال المدنيين فيشوه أجسادهم ويدمر نفوسهم أو يقضي على حيواتهم ليضم أسماءهم إلى سلسلة طويلة من ضحايا ما بعد الحروب.

  الألغام الأرضية المضادة للأفراد والمركبات قضية تطال العالم أجمع ونعاني منها بشكل خاص في بلداننا العربية من شرقها لغربها، على سبيل المثال؛ امتدت في اليمن منذ صراعات القبائل إلى الحروب المتكررة وصراعات السلطة أو النفوذ أو الحدود التي امتدت في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، ثم تجددت في العصر الحاضر بعد استيلاء الحوثيين على مخزن متفجرات يتبع شركة إسمنت كانت تستخدمها في الحفر، حولها هؤلاء إلى ألغام فخخوا بها الطرق والجبال فطمروا فيها الموت بدلا من تعميرها بالبناء.

  في سوريا ترك الصراع مع العدو الإسرائيلي بصمته المميتة أيضًا، كما أحدثت الصراعات الداخلية أثرها بين الثوار والجيش النظامي والطامحين في السلطة والنفوذ من دواعش وغير دواعش. دائمًا يغادر الجنود ويتركون خلفهم حقول الخسة وجذور الدمار. 

  كذلك في مصر ترك الاحتلال الإسرائيلي في سيناء أكثر من خمسة ملايين وخمسمائة ألف لغم، وفي الصحراء الغربية تركت قوات محوري الشر في الحرب العالمية الثانية (ولا أقول الحلفاء والأعداء كما تسميهم المراجع التاريخية التي كتبها المنتصرون) أكثر من سبعة عشر مليونًا وخمسمائة ألف  لغم أرضي غير منفجر شكلت مصائد مميتة لسكان المناطق المحيطة، وتسببت في انعدام القدرة على استغلال 10% من الأراضي المصرية القابلة للزراعة، ويكفي أن نعرف أن إزالة مليون ومائتي ألف لغم استطاعت القوات المسلحة تفكيكهم بجهود ذاتية نتج عنها إتاحة بناء مدينة من أحدث المدن العصرية المصرية تحوي استثمارات بمليارات الدولارات هي مدينة العلمين الجديدة، ومساحات شاسعة من الساحل الشمالي لم يكن ممكنًا استغلالها بأي صورة من الصور منذ بضع سنوات.

 في ليبيا أيضًا على الحدود مع مصر زُرعت آلاف الألغام إبان ما سمي بحرب الأيام الأربعة عام 1977م. وهي حرب عجيبة نشبت فجأة بين مصر (السادات) وليبيا (القذافي)، وكما بدأت أعلن فجأة وقف إطلاق النار وانتهى الأمر، وذهب المقاتلون للراحة في بيوتهم، لكن بالنسبة للمدنيين لم يكن الأمر كذلك؛ فقد كانوا على موعد مع موت متربص تركه المعسكران مزروعًا في الصحراء كامنًا لراعي غنم يسرح بخرافه ونعاجه أو طفل يلهو مع أصدقائه، والقضية ما تزال قائمة حتى اليوم. هذا طبعًا بخلاف الألغام التي تركها الصراع على السلطة بعد سقوط النظام الحاكم في 2011م. 

  في المغرب أيضًا هناك قضية ألغام مستفحلة منذ أيام الاحتلال الأسباني وهناك المزيد من الألغام زرعت بسبب صراعات أخرى على الحدود لم تحسم بعد.

  ليت الألغام الأرضية معروف أماكنها أو أنها ثابتة فيها، لكنها تسرح وتسعى، تتسلل يومًا بعد يوم لتقترب إلى التجمعات السكنية نتيجة الأمطار وتحرك التربة والرياح. باختصار حتى لو رضي الناس بهذا الهمّ الذي زُرع في طريقهم وحاولوا التكيف معه؛ ما كان ليتركهم في حالهم بل يهاجمهم في عقر دارهم، وهو سبب آخر لكون هذا الخطر داهمًا ولا بد من التخلص منه نهائيًا رغم الكلفة الباهظة لذلك، فاللغم الذي قد يكلف إنتاجه وزراعته مبلغًا لا يتجاوز العشرة إلى الخمسة والسبعين دولارًا، تُكلف إزالته بين ثلاثمائة إلى ألف دولار، وبضرب هذا الرقم في عشرات ملايين الألغام المزروعة حولنا نكتشف أن الكلفة مرعبة لكنها ضرورية لأن بقاء الألغام يقابله  أرواح تزهق وحيوات تدمر كل يوم.

  مما سبق يتضح لنا عالمية القضية التي تصدى لها فيلم (آخر لغم)، وهو ما جعل العديد من الأفلام العالمية الروائية والتسجيلية تتناوله، منها على سبيل المثال لا الحصر: فيلم (كاجاكي: القصة الحقيقية) Kajaki: The True Story، ويعرف أيضا ب Kilo Two Bravo، من إنتاج 2014، وهو فيلم دكيودراما بريطاني من إخراج بول كاتيس Paul Katis يعيد تقديم واقعة حقيقية معروفة بحادثة جسر كاجاكي وقعت لمجموعة من الجنود البريطانيين في مهمة عسكرية في أفغانستان عام 2006، وفيلم (أرض الألغام) Land of Mine أو Under Sandet من إنتاج 2015 وهو فيلم روائي دانماركي عن قصة حقيقية لاستغلال ألفي أسير ألماني في إزالة الألغام بعد الحرب، الفيلم من إخراج مارتن زاندفليت Martin Zandvliet. أيضًا هناك فيلم لغم Mine وهو فيلم درامي إنتاج مشترك بين إيطاليا والولايات المتحدة وإسبانيا عام 2016 ويتناول واقعة حدثت لاثنين من جنود المارينز في مكان غير محدد من شمال أفريقيا.

  هذه أفلام طويلة ذات طابع أقرب للأفلام الروائية لأنها تتناول قصصًا حقيقية تعيد تمثيلها أو تستلهمها، وهناك عدد كبير أيضًا من الأفلام القصيرة ذات الطابع الأقرب إلى التسجيلي منها -على سبيل المثال أيضًا- الأفلام اليمنية: (الألغام، الموت المؤجل) من إنتاج قناة بلقيس الفضائية، وفيلم (الألغام مصائد الموت) من إنتاج مواطنة لحقوق الإنسان، وأحدثهم فيلم (عروس في حقل ألغام) للمخرجة اليمنية هناء صالح الذي يتناول في إطار تسجيلي التحول المفاجئ في حياة عروس كانت تستعد لحفل زفافها قبل أن ينفجر تحت قدميها لغم أرضي يحول حياتها من السعادة إلى الشقاء.

  من الجولان السوري المحتل نجد أيضًا فيلم (حقول الألغام) إنتاج قناة 24News Arabic عام 2017م. للمخرج والمراسل التليفزيوني مرعي مرعي، وهو مخرج عربي من عرب 48.

  في مصر تم تناول الموضوع أكثر من مرة سواء في السينما الروائية أو التسجيلية آخرها الفيلم الوثائقي (الألغام) من إنتاج قناة الوثائقية المصرية الذي تم عرضه لأول مرة منذ أسابيع أواخر سبتمبر 2024م. وما يزال معروضًا على منصة Watchit المصرية، وربما هو أكثر الأفلام الوثائقية العربية عن هذا الموضوع حظًا من حيث ميزانية الإنتاج التي أتاحت له إعادة تصوير وقائع الحرب العالمية الثانية ومعركة العلمين الأولى والثانية التي كان نتيجتها غرس ألغام على مساحة شاسعة من صحراء مصر الغربية بواسطة القوات الألمانية والإيطالية والإنجليزية.

  ليبيا أيضًا كان لها نصيب من هذه الأفلام من خلال مؤسسة (منبر المرأة الليبية من أجل السلام) والتي تصدت لإنتاج سلسلة من الأفلام حول موضوع الألغام خاصة التي فخخ بها الإرهابيون مناطق مأهولة بالسكان أو زرعوها بالقرب منها فتسبب كل يوم إصابات وتزهق أرواحًا جلها من الأطفال الذين لم يشاركوا في هذا الصراع ولو بالكلام. من هذه السلسلة الوثائقية ظهر فيلمان هما: (العدو الخفي) الذي عرض في سبتمبر 2017م. والفيلم الثاني هو: (معزوفة الموت.. قصة مدينة تحاصرها الألغام) الذي عرض في 10 نوفمبر 2017م. في مؤتمر بمدينة الحمامات بتونس.

  في آخر لغم تأخذنا فاطمة أكلاز إلى رحلة مع ضحايا الألغام الأرضية ومخلفات الحروب في الصحراء المغربية، رحلة وثائقية مفعمة بالدراما، تأثرًا -ربما- بالموضوع الذي يحتمل قضية إنسانية مؤججة بالمشاعر تحوي في مَتنِها تراجيديا الأزمة وصراع البقاء وأملًا في الأفق بعيدًا يحفز أبطال الواقع ويقود الأحداث ليضفر حبكة محكمة. التقطت صانعة الفيلم ذلك الخيط الدرامي بمهارة تنم عن خلفيتها الفنية كممثلة مسرح ومخرجة سينما حرصت أن تكون حاضرة على الشاشة بدور ما في أفلامها الروائية القصيرة الخمسة التي أخرجتهم من قبل ضمن سبعة أفلام في قائمة أعمالها كمخرجة سينمائية.

  أقيم بناء الفيلم على خمسة أجزاء ربطت بينها المخرجة عن طريق عناوين مكتوبة تضم مقتطفات لكتّاب معروفين اختارتهم بعناية أو نصوصًا افتتاحية مقتضبة، وهي تقنية سينمائية قديمة جدًا من أيام السينما الصامتة، كانت توظف لتلافي عيب نقص الصوت في بدايات السينما، ووُظفت هنا لفتح الطريق أمام السرد البصري وقيادة المتلقي عبر دروبه واختزال تفاصيل عمر ممتد من صراع البشر مع الألغام ومع ظروف الحياة في الصحراء، الحياة الشاقة والممتعة في نفس الوقت.

  يُفتتح السرد السينمائي بعبارة منسوبة للروائي الليبي العالمي إبراهيم الكوني، ذلك الأديب الذي عُرف بسبره أغوار الصحراء التي يعرفها جيدًا حتى يقال إنه أول من أحدث نقلة للرواية من كونها فنًا مدينيًا يكتب في المدن عن المدن وأهلِها، ويقرأ أيضًا في المدن؛ أخذه الكوني إلى الصحراء. تقول عبارته التي يُفتتح بها الفيلم:

"في الصحراء لا يوجد شيء على الإطلاق، ويوجد كل شيء"

إنها عبارة تلخص المسافة بين نظرة الغرباء لهذه الكثبان الممتدة والمساحات الصفراء القاحلة اللانهائية التي تبدو غير حية ولم تشهد حياة ولا ينتظر منها إرهاص بأي صورة من صور الحياة، لكنها في نفس الوقت عند الخبير بدروبها وشعاب جبالها حياة كاملة متكاملة، كل ذرة رمل فيها طيَّرها الهواء لتطمس أثر قدم مرت هنا تحمل ذاكرة، تاريخًا وقصصًا لأناس وأنس وأمال وألم أحيانًا كثيرة.

  الفصل الأول من الفيلم يسبق التترات وهو ملخص تشويقي يعرض مقتطفات من القصص التي ترد في المتن بعد ذلك، ومشهدًا تمثيليًا توظفه المخرجة لتربط مفاصل السرد، فتقسمه لأجزاء تعرض بعضًا منه كل حين بين فصول الفيلم، وهو مشهد يعيد تمثيل قصة أحد الأبطال الذي اضطرته ظروف قصف جبهة البوليساريو لمدينته (السمارة) للمغادرة إلى مخيم في الصحراء، ثم يترك خيمته متجها بعيدًا عن الأنظار لقضاء حاجته فينفجر فيه لغم وينتهي به الحال، بعد محاولات متعثرة لإنقاذه، بفقد إحدى ساقيه وإحدى عينيه، هذا البطل يتحول بعد حين لأحد الناشطين في مجال التوعية عن خطر الألغام والباحثين عن حقوق المعاقين.

نشاهد أول لقطة من هذا المشهد في أول الفيلم، الشاب يتمشى في الصحراء، لقطة عابرة لا نفهم معناها إلا بعد أن تكتمل خيوط القصة.

  جزء آخر من المشهد التمثيلي الذي أشرنا إليه يأتي مع ظهور عنوان الفيلم الذي يفصل بين لقطة أحادية اللون (أبيض وأسود مع مسحة من السيبيا) للشاب يتقدم في الصحراء التي تنحدر به حتى يختفي عن العيون، ثم لقطة ملونة وإن كانت ألوان الصحراء ذات التشبع المحدود تجعلنا بالكاد نحس بهذا التغير اللوني، فقط في الحدود التي ندرك معها أن الزمن تغير، فنرى العائد من عمق الصحراء في الزمن الحاضر وقد صار يمشي على عكازين، وهو الشيخ أحمد بن ليمان أحد البطلين الذين يقودان السرد ويغذونه بأبعاد درامية (تخييلية) من خلال قصة صداقتهما الحقيقية على أرض الواقع.

  الطريقة التي تم بها إخراج المشهد السابق تحيلنا إلى تناصٍ مع مشهد متطابق (تقريبًا) من فيلم (حقول الألغام) للمخرج مرعي مرعي الذي أشرنا إليه سلفًا مع اختلافات بسيطة حيث يدور في صحراء الجولان ويذهب مجموعة من الأصدقاء ليتواروا عند منحدر رملي، ثم يعود أحدهم فقط من العمق على عكازين. هذه الإحالة نموذج فقط وثمة إحالات عديدة (تعدد التناص) تشير إلى مدى اطلاع المخرجة ودراستها وهضمها للأعمال التي سبقتها لتناول الموضوع ثم الاستفادة منها في تقديم فيلم مؤثر يمثل سجلًا يؤرخ اللحظة الإبداعية التي أنتج فيها.

  "الناس لا شيء بدون القصص"

  بهذه العبارة ينطلق السرد في عرض مجموعة من اللقاءات يروي من خلالها الأبطال قصصهم مع الألغام، اختلافات ليست كبيرة، كلها تنتهي بمأساة لأصحابها، شاب فقد يده وزوجة فقدت زوجها وأحد ابنيها، وقصص أخرى منها قصة صداقة بين رجلين من مصابي الألغام أحدهما ينتمي إلى مدينة (بوجِعد) في الشمال، من قلب المغرب هو (الخميس حمادي) أو (بوستة) والآخر ينتمي إلى مدينة السمارة الصحراوية وهو (الشيخ أحمد بن ليمان). تلك تبدو إشارة فنية مضمرة بذكاء إلى وحدة التراب المغربي ضمنتها صانعة الفيلم بين السطور دون أن تزعق بها أو تجعلها في قالب دعائي فج لا يعيش في عقل وقلب المتلقي. قصة الصداقة هذه تعطى حيزًا كبيرًا من السرد. تتخلل الفيلم حتى تصل بنا إلى آخره فيختتم الفيلم بهما في جلسة سمر وشرب الأتاي المغربي الشهير على أرض الصحراء التي تبدو آمنة رغم أنها ما يزال بها لغم نرجو كما ترجو صانعة الفيلم والمشاركون فيه أن يكون اللغم الأخير.

  "إن سر الوجود الإنساني لا يكمن في الحياة فحسب، بل في معرفة ما يجب أن نعيش من أجله."

  بهذه الجملة التي كتبها الأديب الروسي فيودور دوستويفسكي في رواية الإخوة كارامازوف، يفتتح فصل آخر من الفيلم، فصل أكثر حيوية يغلب عليه التصوير بالكاميرا المحمولة، يمكن اعتباره أكثر فصول الفيلم وثائقية. نرى خلاله تجربة (جمعية إسراء لدعم ومساندة ضحايا الألغام) والتي ينخرط في عضويتها بطلا الفيلم حيث يتقدم دورهما في الفيلم من مجرد الحكي إلى الفعل، فنراهما ضمن أنشطة الجمعية التوعوية والمساندة لضحايا الألغام، ومن خلال هذا الفصل نقابل المزيد من ضحايا الألغام ونتعرف على قصص أكثر لمأساة هذا الشر المتربص بالمدنيين.

  بعد ذلك نجد فصلا تكتمل فيه حكاية القصص التي يرويها الفيلم لكنها لا تنتهي. يبدأ الفصل بمشهد الشاب الذي يتمشى في عمق الصحراء وينفجر فيه اللغم، المشهد هذه المرة يأتي كاملا، وتتواصل حكايات ضحايا الألغام (أبطال القصة). يبدو أن هذا الفصل ينهي علاقة الفيلم بالماضي ليقودنا إلى الفصل الخامس والأخير الذي يفتتح بنص مقتبس من رواية الأديب إبراهيم الكوني (التبر)، تقول العبارة: "التعويذة الأسطورية لأهل الصحراء هي الصبر"

هذا الفصل الأخير من الفيلم نشاهد خلاله هؤلاء الناس، سكان الصحراء يمارسون طقوس الصبر اليومي، والصديقان يتسامران في سهرة بقلب الصحراء يتمتعان خلالها بأمان محتمل، فقد تكون الألغام انتهى وجودها كما يذكر عنوان الفيلم (اللغم الأخير) ليته يكون أخيرًا ليغني الجميع مع (بوستة) وصديقه (بن ليمان) في عودتهما إلى المدينة ليلا معلنين رضاهما بالمقسوم وصبرهما على البلاء وسعادتهما الممكنة بالمتاح.

 

أحمد صلاح الدين طه

الأربعاء 13 نوفمبر 2024

dedalum.info@gmail.com

 

فيلم آخر لغم.. فاطمة أكلاز توارب باب الأمل

فيلم آخر لغم.. فاطمة أكلاز توارب باب الأمل

فيلم آخر لغم.. فاطمة أكلاز توارب باب الأمل

فيلم آخر لغم.. فاطمة أكلاز توارب باب الأمل

فيلم آخر لغم.. فاطمة أكلاز توارب باب الأمل

فيلم آخر لغم.. فاطمة أكلاز توارب باب الأمل

فيلم آخر لغم.. فاطمة أكلاز توارب باب الأمل

فيلم آخر لغم.. فاطمة أكلاز توارب باب الأمل

فيلم آخر لغم.. فاطمة أكلاز توارب باب الأمل

فيلم آخر لغم.. فاطمة أكلاز توارب باب الأمل

فيلم آخر لغم.. فاطمة أكلاز توارب باب الأمل

فيلم آخر لغم.. فاطمة أكلاز توارب باب الأمل

فيلم آخر لغم.. فاطمة أكلاز توارب باب الأمل

فيلم آخر لغم.. فاطمة أكلاز توارب باب الأمل

فيلم آخر لغم.. فاطمة أكلاز توارب باب الأمل

فيلم آخر لغم.. فاطمة أكلاز توارب باب الأمل

فيلم آخر لغم.. فاطمة أكلاز توارب باب الأمل

فيلم آخر لغم.. فاطمة أكلاز توارب باب الأمل

فيلم آخر لغم.. فاطمة أكلاز توارب باب الأمل

فيلم آخر لغم.. فاطمة أكلاز توارب باب الأمل

 

Translate ترجم إلى أي لغة

بحث Search

عام جديد سعيد 2025

Dedalum New Year

ديدالوم

عام جديد سعيد مليء بالإبداع والفرح!

أرشيف المدونة الإلكترونية


شرفتنا بزيارتك أنت اليومَ الزائر رقم

125510