مرحبًا بكم في ديدالوم مجمع الفنون

منصة الفن والأخبار الثقافية الرائدة

أحدث الأخبار والمقالات

‏إظهار الرسائل ذات التسميات فينوس ولندورف. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات فينوس ولندورف. إظهار كافة الرسائل

الجمعة، يناير 03، 2025

دمية بيرني.. إنسان العصر وتاريخه البائس في فيلم كارتون

 Berni’s Doll

 دمية بيرني.. إنسان العصر وتاريخه البائس في فيلم كارتون

Berni’s Doll,shorts



  هذه من أكثر النكات التي قد تمر عليك في حياتك بؤسًا، ووجعًا وكآبة وإيلامًا. عندما ينتهي تاريخك العاطفي، وتتداعى خرافاتك الوجدانية فجأة في لحظة مكاشفة يلفظك فيها شريك عمرك ويفر منك فرار الناس من الوباء دون إدراك منك للتغير المفاجئ من المحبة المفرطة إلى العداء المتأجج.. من متيم بك يسهر الليالي، يعد اللحظات حتى يلقاك، إلى ناقمٍ نافرٍ يرمح بعيدًا في اتجاه أفق ملبد بالغموض دون تفسير منطقي سوى أنه رآك للمرة الأولى.. على حقيقتك.

 

  في فيلم الكارتون الفرنسي القصير (دمية بيرني) من إخراج (يان جُوِيت Yann Jouette) نرى عالَمًا أورويليًا بائسًا يذكرنا إلى حد بعيد بالمستقبل الذي تخيله جورج أورويل للإنسانية في روايته 1984، وربما ذكرنا أيضًا بما تصوره الروائي المصري صبري موسى شكلًا لحياة بطل روايته المأساوية التي تدور في المستقبل، رواية (السيد من حقل السبانخ)، لكن الفيلم هنا لا يدور في المستقبل، ربما لأننا بالفعل نعيش في عصر ما بعد المستقبل الذي تصوره الكاتبان السابقان في روايتيهما المذكورتين، وربما أيضًا لأن الكارتون حالة خاصة من الفن السينمائي يمكن فيها أن يكون الفيلم واقعيًأ وتعبيريًا ورمزيًا، حاضريًا ومستقبليًا في نفس الوقت؛ يدور في عوالم غرائبية كقصيدة من شعر النثر دون أن يتخلى عن إيقاع الواقعية ووضوح الطبيعية وتفاصيلهما المفرطة في الدقة.

 

  يدور الفيلم حول بيرني، ذلك العامل البسيط في مصنع لإنتاج طعام القطط، في طبقة وسطى من المصنع يقوم بعمل روتيني هو وضع الأغطية على العلب في آخر خط الإنتاج الذي يتم كله آليًا تمامًا، أو على الأقل لا نرى في المصنع أي عامل آخر- إلا فيما ندر- غير بطلنا.

 

  يواجه بيرني مشكلة تتعلق بحاجاته العاطفية حيث لا يستطيع في خضم حياته الروتينية إقامة أي صلة طبيعية تقليدية بالجنس الآخر، مما يسبب له مشاكل في عمله حيث يجازى لأنه مهمل في عمله. لكن حياته تتغير تمامًا بعد أن يشاهد إعلانًا عن بيع دمى جنسية تمثل جذع امرأة مكسيكية أو أفريقية أو آسيوية، فيقرر أن يشتري الأفريقية لأنها الأرخص، لكنها مع ذلك تكلفه بيع سيارته حتى يدبر ثمنها، وما إن تصل إليه في طرد بريدي حتى تقلب حياته رأسًا على عقب فيتحول إلى عامل نشيط مجتهد، ويتغير تقييمه في المصنع تمامًا حيث يلاقي ثناء رؤسائه الذين يراقبونه من خلال كاميرا مسلطة عليه طوال ورديته، يكافئونه عن بعد من خلال كف آلية تهبط إليه لتربت رأسه، ومرة أخرى تأتي لتنتشله من طبقته وترفعه درجة أخرى حيث يتحول إلى مشرف إداري يتولى هو هذه المرة المراقبة من مكتب مريح مزود بجهاز كمبيوتر وإنترنت.

 

  التطور الذي يطرأ على حياة بيرني بفضل عروسته غير المكتملة يدفعه إلى تطويرها، وإذا كان في المرة الأولى اشترى الجذع الأفريقي لأنه الأرخص، فهذه المرة بعد أن كسب المال وترقى في العمل يشتري ذراعين مكسيكيتين قويتين فيدب النشاط في شريكته الدمية وتبدأ خدمتَه بنشاطٍ في المنزل مما يدفعه وهو جالس مؤنتِخ يقرأ الصحف ويراقبها تقوم بالأعمال المنزلية إلى أن يفكر في شراء ساقين يساعدانها في الحركة؛ فيشتري لها ساقين آسيويتين سريعتين، وهكذا يكتمل الجسد، لكنه ما يزال ينقصه شيء ما، لا يلتفت إليه بيرني لكن افتقاده يؤرق شريكته المستميتة في خدمته ألا وهو الرأس، فيقرر أخيرًا أن ينتقي لها رأسًا مناسبًا، وعندما يركّبه فوق جسدها وتفتح عينيها للمرة الأولى في حياتها تراه ذلك الشخصَ رث الهيئة القبيح النهم، وترى كل المواقف التي مرت عليها في حياتها معه بشكل مغاير حيث تفكر أنه استغلها جنسيًا وخدمها أو استعبدها عنده وعاملها بقسوة، وهنا تقرر الفرار منه فتتركه وحيدًا متألمًا بعد أن كان توهم أنه وجد شريكته الأبدية ووقع في هواها وصار متعلقًا بها متيمًا في حبها.

 

  الفيلم على قصره حيث لا يزيد عن إحدى عشرة دقيقة، يفتح أبواب التأويل والتفسير على مصراعيها. يتركنا بأصالة فنية محتارين بين مجموعة من تساؤلات التلقي يطرحها على عقولنا دون أن يستجوبنا فيها.. فقط يتركنا نتداولها مع أنفسنا وينصرف انصراف الفنانين الصادقين.

 

  يبدأ الفيلم بفأر تقوده غريزته عبر ممرات محددة له سلفًا، يجري بغير وعي متتبعًا رائحة قطعة من الجبن وضعت له بدقة في مكان يصل إليه أخيرًا ويبدأ في تناول الجبن، لكنها طبعا كما سيتوقع المشاهد مصيدة آلية ضخمة، حيث تهوي عليه مطرقة مهولة تحوله إلى كتلة من اللحم المفروم والمهروس تنقلها السيور لتعبأ في عبوات قبل أن تصل ليد بطلنا بيرني فيغطيها لتأخذ طريقها إلى القط المحظوظ. في المشهد الأخير بعد أن تدفع الدمية المكتملة برأسها بيرني وتهرب محطمة الباب ذي الأقفال العديدة ينكمش بيرني على نفسه وينام على جانبه في وضع أشبه بالجنين في بطن الأم، أو الوضعية نفسها التي كان البشر يدفنون بها موتاهم في فترات مبكرة جدا من تاريخ الإنسان على الأرض. عندها تبدأ الكاميرا في الارتفاع لنرى المكان من زاوية عين الطائر، وكلما ارتفعت الكاميرا أصبحنا نرى أكثر، ووصلنا إلى يقين أن الشقة التي يسكن فيها بطلنا هي جزء من بناية تكاد ممراتها تتطابق مع المتاهة التي كان يجري فيها الفأر الذي رأيناه في أول الفيلم، إن صانع الفيلم يقدم استعارة بليغة مفادها عرض التشابه بين الفأر وبيرني، البطل، إنسان العصر الحديث، فكل منهما (الإنسان والفأر) يجري بشكل غريزي خلف شهواته، الفأر نحو قطعة الجبن، والرجل نحو المرأة (وقد يجوز- في المطلق- أن نقول: والمرأة نحو الرجل)، من خلال رحلته الحياتية يمر بتجربة جديدة بالنسبة له لكنها تكرارية أبدية بالنسبة للنوع كله، فليست تجربة الفرد إلا حلقة زمنية واحدة وسط سلسلة طويلة من الحلقات المتشابكة تشكل التاريخ، وفي نهاية الرحلة حيث يتصور كل منهما أنه وصل غايته الأخيرة تسقط فوقه المطرقة الضخمة فتفرمه وتحوله قطعة من اللحم المعبأ في انتظار الوصول إلى أنياب الآكلين. 

 

  رؤية عبثية للحياة تؤكد سوداوية الواقع وإحساس اللاجدوى الذي يسيطر على تصور إنسان العصر الحاضر حول وجوده في الوجود ووجود الوجود فيه.

 

  الدمية التي شغلت نصف اسم الفيلم منسوبة إلى بيرني تعطينا دلالات قوية تشير بشكل واضح رغم أنه ضمني إلى مدلولات من السهل على أي مشاهد على قدر محدود من الدراية المعرفية أن يدركها؛ بداية من انتساب الدمية إلى بيرني في العنوان والذي يلغي تفردها ويجعلها تابعًا لمالكها، البطل الذكر المشغول بشهواته والذي يجمعها قطعة قطعة حتى تكتمل أنثى كاملة ناضجة. فكرة ذكرتني مباشرة بإحدى القصص القصيرة - على ما أذكر- للأديب الروسي الرائع أنطون تشيكوف والتي تتحدث عن ضابط شاب يدعى إلى حفل في مكان عام، ومثله مثل بيرني يفتقد الشاب وجود شريكة أنثى في حياته، لكنه غير راضٍ تمامًا عن هؤلاء النسوة اللاتي تملأن القاعة والمستعدات- معظمهن- للاستجابة لأول شاب يدعوهن للرقص، كل واحدة منهن لديها جمال ما لكن لديها عيبًا أو عيوبًا أيضًا، يتساءل الشاب الغرير عن إمكانية حصوله على فتاة كاملة الأوصاف، عينا تلك وأنف أخرى وجسد ثالثة؛ هكذا تصورت أنثاه في عقله، لكن امرأة خياله تلك ليست بين المجتمعات هنا.

 

  بالصدفة عندما يسير في إحدى ممرات القصر حيث الحفل يرى أنثاه المفارقة للواقع تجسدت أمام عينيه، ينبهر ويهرول خلفها متمنيًا أن يلقى منها قبولا كما ملأت قلبه رضى، لكنها كما ظهرت فجأة تلاشت كما لو كانت تبخرت.. يبحث عنها في كل ركن من أركان البيت وكأنه الأمير يبحث عن سندريلا، لكن الأمير في القصص الشعبية القديمة كان أسعد حظًا منه فقد كان بين يديه أثرٌ لمعشوقته المفقودة (فردة حذاء) أما هو فلا حذاء ولا أثر يدله أين اختفى مثاله الغائب، وبينما هو مجد في بحثه تقوده الممرات بعضها إلى بعض؛ يجد نفسه في مكان شديد الحلكة، الظلام يطمس كل شيء، وبينما هو على ذلك الحال يحملق فيما حوله محاولا رؤية أي بصيص من الأمل يفاجأ بصفعة قوية على قفاه تُفقده توازنه للحظات يفيق بعدها فلا يجد أحدًا حوله، فكأن الصفعة تذكره بانعدام فرصة وجود (مثال) على أرض (الواقع). بطلنا هنا في الفيلم أفضل حالًا لأنه يعيش في العصر الحديث؛ حيث تصادفه إعلانات عن أجزاء بشرية (دمى حية بديلة للإنسان) في كل مكان يذهب إليه ليس فقط في التليفزيون لكن حتى اللافتات في الطرق وهو عائد إلى منزله، فاترينات المحلات مليئة بهذه الأجزاء سيقان وجذوع وأذرع، تبدو حيث يعيش بيرني تجارة رائجة للغاية حتى إن بائعة أحد المتاجر اتخذت لنفسها ذراعين إضافيتين تساعدانها على أداء أعمالها في صورة تذكرنا بالإلهة الهندية شاكتي متعددة الأذرع.. بدائل الإنسان في كل مكان، لكنه عندما يقرر؛ يختار نفس ما اهتم به جد أجداده الإنسان البدائي في العصور الموغلة في القدم عندما نحت نموذجًا لمثاله الأنثوي فاختار الجذع المتفجر بملامح الأنوثة وأغفل كل شيء آخر عداه.

 

  يقدم بيرني نموذجًا ليس غريبًا على عصرنا الحديث، إنه الإنسان الذي نراه كل يوم وفي كل مكان نذهب إليه، نراه في العمل وفي الشارع، في وسائل المواصلات والمتاجر الكبرى والصغرى، نراه حتى في المرآة عندما ننظر إليها، الإنسان الذي هو نحن موجود في كل مكان دون أن تعبأ بوجوده الأمكنة، ترس موضوع في آلة يؤدي دوره بتفان وإنكار للذات عودنا عليهما عصر الآلة الجاف وفلسفات الكتل اليسارية واليمينية على السواء؛ الشيوعية والرأسمالية وما بينهما من أفكار طورها شخص غامض لتصبح ملائمة للمجتمعات البشرية الحديثة التي صارت تخضع لها طوعًا أو كرها، ورغم الصراعات والحروب التي تأججت من أجل تفضيل هذه على تلك يبقى جوهرهما واحدًا: السيطرة على الناس وجعلهم قطعًا في آلة صناعية ضخمة. لا يختلف فرد عن آخر إلا بموقعه في الماكينة التي لا تتوقف عن الدوران.. عجلة الإنتاج في الشرق هي هي عجلة الإنتاج في الغرب، الفرق الوحيد بينهما في أن تلك تملكها الدولة وهذه يملكها مديرو الشركات الكبرى، أما الفرد، الإنسان؛ فقد تقطعت صلاته الاجتماعية القديمة الأبدية وتواصله المنفتح مع بني جنسه واستبدلت بها علاقات جديدة قائمة على تبادل المنفعة والوقتية المقيتة، فصار هكذا لا يجتمع أبدًا إلا مع وحدته.

 

  دمية بيرني هي ليست لعبة؛ إن تاريخها الذي يُبنى في الفيلم أمام أعيننا. يمكن اعتباره تمثيلا لتاريخ المرأة وتطور مكانتها في المجتمع عبر الزمن منذ العصر الحجري. المرأة التي بدأ دورها مرتبطًا بالجنس، الدور الذي جعل إنسان العصر الحجري في أوروبا يصورها في- تمثال (فينوس ولندورف) كمثال- جسدًا تكاد تنطمس كل أجزائه فيما عدا الجذع بمكوناته ذات الطابع الشهواني، بعد ذلك يتطور دور المرأة بحصولها على ذراعين قويتين لتتحول إلى خادمة للرجل تؤدي له كل مهام المنزل من طهي الطعام لإعداد الملابس وغيرها، فتتطور معها أيضًا مكانة الرجل من نكرة لا يعرف نفسه ولا يدرك قيمته، إلى سيد يدير المنظومة ويتمتع بخدمات الآخرين، عندما تحصل دمية بيرني على ساقين تبدأ في شراكة حقيقية معه فهي تخرج إلى الشارع وإن كانت ما تزال تخشى عبور الطريق فتضطر دائمًا إلى التعلق بذراعه، وتغار عليه عندما تسمع وقع أقدام أنثى أخرى، وربما تغار من الأخرى التي تملك رأسًا لا تملكه هي. أخيرًا عندما يصبح لديها رأس، يعني عقلا وعينين ولسانًا وشفتين؛ تتمرد، فقد اكتملت بنيتها وأدركت وجودها فتثور أول ما تثور عليه هو، بيرني الذي جمعها قطعة قطعة، بعضها من إعلانات التسويق على التليفزيون وبعضها من الأسواق التجارية والبعض من الإنترنت. لكنها عندما أصبحت أنثى كاملة استعادت ذكرياتها معه وقد بدت كل مواقفه معها عكس ما رأيناه فظهر بيرني مستغلا لها جسديًا ومستعبدًا لها يسخرها لخدمته مجانًا، وأخيرًا قاسي القلب يعاملها بعنف ويحبسها داخل بيت بابه موصد وعليه عدة أقفال لا تعبأ بها فتحطم الباب بعنف يضاهي ذكرياتها المتوحشة إزاءه، تختار أن تصير واحدة مع نفسها، وتتركه وحيدًا مع بؤسه.

 

  دمية بيرني أيضًا تفتح أفق المتلقي لمفهوم آخر عن الدمية، رغم أن الفيلم أنتج في 2008م. ولم نكن وصلنا بعد لما نحن عليه من تسارع في التطور العلمي والتكنولوجي، لكن الفيلم يمكن اعتباره صرخة مبكرة، نبوءة بشأن التطور المرتقب- حينها- للذكاء الإصطناعي وتكنولوجيا الروبوتات المضاهية للبشر والتي صارت واقعًا نعيشه حتى إن بعضها قد يحصل على جنسية إحدى الدول مثلما حدث مع صوفيا المرأة الروبوت التي تحمل الآن الجنسية السعودية. الفيلم يقدم التخوفات المشروعة للإنسان من أن يأتي اليوم الذي يتمرد فيه الذكاء الإصطناعي والروبوتات الذكية على صانعيها.

 

  يدفعنا صانع الفيلم يان جويت Yann Jouette للتعاطف مع بيرني، فهو يجعلنا نرى الحقيقة لحظة بلحظة طوال الفيلم فندرك أن بيرني مظلوم في كل تصورات شريكته في الحياة عن علاقتهما معًا، ويدفعنا بصريًا لإدراك كيف أنه تعرض طوال الفيلم لنفس الخدعة التي قادت الفأر للوقوع في المصيدة. أي أننا نأخذ صف بيرني في علاقته بدميته المتمردة، ونأسى لحاله في علاقته بالنظام العام الذي فرمه (استعاريًا) في النهاية لأن منظومة المصنع تتعامل معه كما تتعامل مع الفأر، الجميع لا قيمة لحيواتهم إلا بقدر ما يحافظون على استمرارية دوران عجلة الإنتاج.

 

  رغم الدقة التي رسمت بها الرسوم المتحركة وصيغت بها حركة الشخصيات الكرتونية إلا أن صانع الفيلم اختار الميل إلى جعلها تعبيرية، فجردها أولا من الألوان معتمدًا على أحادية اللون، وجعلها أقرب للرسوم بالقلم الرصاص، صحيح أنه استخدم تقنية الظل والنور لجعلها مجسمة وهو ملمح طبيعي، إلا أنه اختار أن يحدث انبعاجًا ما يجعل عالمه بعيدًا عن الواقع فتصير رؤوس الشخصيات مثلا أقرب إلى الأشكال الهندسية معظمها تكاد تكون مثلثة، كذلك الأبنية والسيارات والشوارع التي تذكرنا بتشوهات المنظور عند رواد المدرسة التعبيرية الألمانية، وهي مقاربة تؤكد سوداوية الواقع الذي يعيشه إنسان العصر الحديث من وجهة نظر صانع الفيلم.

 

  شريط الصوت أحد العناصر المهمة للغاية في الفيلم، بالإضافة إلى البعد الموسيقي الذي ربما لن يمكنك سماعه منفردًا كما قد تفعل مع تراكات صوت سينمائية أخرى رغم قوتها تكون كيانًا مستقلا موازيًا للفيلم نفسه فيجتهد المونتير ومصمم تراك الصوت في لضمها مع التدفقات السمعبصرية التي تشكل جسد الفيلم؛ الموسيقى هنا، في فيلمنا هذا، مضفرة بعناية كجمل مصاحبة قد لا تستطيع فصلها عن العناصر الفيلمية الصوتية الأخرى فتكمل هذه تلك. المؤثرات الحية والصناعية، والإيقاع الذي تسير عليه كل المنظومة الفيلمية. الذي يصدر بشكل واقعي من العناصر المصدرة للصوت داخل الكادر: خطوات المشي، الحركة والتوقف لسيور المصنع الذين يخلقان معا إيقاعًا رتيبًا يؤكد جفاف الحياة التي يعيشها بيرني. حركة السيارات في الطرق. موسيقى الإعلانات التليفزيونية وصوت الهاتف. الطبول وقرع الأجراس والآلات النحاسية التي تتصاعد وتيرة طرقها بأسلوب يذكرنا باللحظات الحاسمة في عروض السيرك. كل ذلك يشكل تراك صوت قوي جدًا يسهم في التلاعب بإفراز الأدرينالين لدى المشاهد فيصعد مع تدفق الأحداث ويصل ذروتها مع ذروتها ويقف عندما ينتهي الحدث ثم يبدأ دورة جديدة.

 

  اختار مؤلف الفيلم أن يقيم بنيته على أساس دائري فيبدأ حيث ينتهي، يبدأ بالممرات التي صنعت لخداع الفأر حتى يصل إلى المطرقة التي تقضي عليه، وفي نهاية الفيلم نصل إلى الحدث الذي يشكل مطرقة اعتبارية تقضي على البطل بيرني، وهو هروب شريكة حياته منه بعد كل ما بذله في سبيل وجودها، تتركه محطم القلب ممزع الروح كأنه صار كتلة لحم ميت. مثله مثل الفأر الذي بدأ به الفيلم. عندما تصعد الكاميرا في آخر الفيلم نجد الوحدة السكنية التي يعيش فيها البطل ليست سوى واحدة من عدد لا محدود من الوحدات الأخرى المتطابقة معها مما يفتح بوابة أمام المتلقي لتوقع كم هي احتمالات تعدد وتكرار حكاية بيرني اللانهائية.

 

  دمية بيرني فيلم لا أنصحك بمشاهدته إن كنت ممن يعتقدون أن الكارتون يصنع فقط للأطفال.

 

أحمد صلاح الدين طه

الجمعة 3 يناير 2025

dedalum.info@gmail.com

لمشاهدة الفيلم:


Translate ترجم إلى أي لغة

بحث Search

عام جديد سعيد 2025

أرشيف المدونة الإلكترونية


شرفتنا بزيارتك أنت اليومَ الزائر رقم