فيلم: TILL DEATH DO US PART
(حتى يفرق الموت بيننا) مأساة الحب الذي يحسن وأده
ليس فيلم رعب، بل فيلم عن عالم مخيف.. مخيف أكثر من أفلام الرعب، فأفلام الرعب تقع بين دفتي البداية والنهاية، كل ما فيها من قلق وخوف ومطاردات.. من أرواح شريرة وعوالم غامضة، كل ذلك ينتهي مع كلمة النهاية حتى لو استمر قلبك يخفق وأطرافك ترتجف بعد الخروج من قاعة العرض، آخر الأمر مع ساندويتش شاورمة وكوب عصير معتبر ستنسى كل الرعب، لكن هذا الفيلم سيظل يؤرقك لأنه عن الواقع، عن قصص الحب.. قصص الحب الواقعية التي تستحق أن تموت..أبدًا.
يدور الفيلم حول شاب يقع في حب دافئ وعميق مع فتاة بريئة رقيقة من سكان قريته في منطقة ما من أوربا في عصر قديم، هذا الشاب على استعداد لفعل المستحيل من أجل فقط أن يستطيع شراء خاتم زواج باهظ الثمن ليتمكن من التقدم لمحبوبته، لكنه فقير يعمل كمساعد لأحد الحانوتية، الحانوتي رجل حكيم وأمين، منحته مهنته في دفن الموتى ثقلًا في الحكم ووزن الأمور بما تستحق، والأمور كلها لا تستحق لأن مآلها إلى زوال مثل أبدان البشر التي يتم تكليفه كل يوم بمواراتها التراب.
الشاب المحب لم يكتسب وعي معلمه العجوز، إنه بنزق وثقة صغار السن يعترض على الحكمة في دفن متعلقات الموتى الثمينة معهم "إنه إهدار للموارد"، هذا ما يقوله الشاب، لكن معلمه يؤنبه بل يوبخه ويذكره: "نحن لا نستولي على متعلقات الموتى"، يقول الشاب: "لا أحد يرانا"، فيجيبه العجوز: "هناك الله يرانا من علٍ، وهنا هم أيضًا (يشير إلى تابوت أحد المتوفين حديثًا) وأنا أخاف منهم أكثر".
تحول عميق في حياة الشاب، يحدث عندما يفكر في سلب فتاة مقتولة مقتنياتها، إنها فتاة عانت الحب أيضًا، الحب القاتل المميت، حب انتهى بها جثة منبوذة من الجميع وفي إصبعها خاتم ثمين رآه الجميع ملعونا واعتبره الشاب أداة لنجاة حبه الحي؛ تحول تراجيدي ومرعب وفنتازي، ينتهي إلى خاتمة تحمل الحزن والأسى بقدر ما يتأجج في نفس المشاهد من مشاعر التعاطف والرفض.
أدب سينمائي:
عندما تشاهد الفيلم ستدرك معنى أن يكون هناك تضافر محكم بين فني السينما والأدب، هذا فيلم يأخذنا إلى سرد سينمائي تصبح فيه اللغة بمفهومها الأصلي، وهي هنا الإنجليزية، متمازجة مع تعبير بصري وصوتي أخاذ، كلاهما قوي، وكلاهما يدعمان بعضهما ويصنعان مع التعبيرات اللغوية (في تعليق السارد والحوار) عملًا أصيلًا يستحق المشاهدة والتأمل، ولذلك اعتبرت أنه من الملائم أن أطلق عليه تعبير (أدب سينمائي).
تمدنا اللغة الإنجليزية (في الفيلم) بكم لا يستهان به من الإحالات اللغوية والحكم البليغة الموجزة التي قد تجعل من الفيلم لاحقًا ذخيرة لمن يحبون اقتباس المقاطع والأقوال التي يمكن أن تطابق أي زمان ومكان. بداية من العنوان: (حتى يفرقنا الموت) هذه العبارة الأيقونية التي تتردد بمختلف اللغات وفي مختلف الثقافات شاهدة بمعاني الإخلاص، عبارة أثيرة تردد مفاهيم إيجابية عن المحبة الأبدية، مما جعلها عنوانًا لكثير من الأفلام، وحتى يختارها المقبلون على الزواج عنوانًا لفيديوهات حفل زفافهم، والأمثلة على الإنترنت لا حصر لها، لكن نفس العبارة تكتسب هنا معاني مغايرة، بل مناقضة لما اعتدناها معبرة عنه (وتلك خاصية شعرية يطلق عليها بعض نقاد الأدب "كسر الاعتياد اللغوي") فبدلًا من أن تعبر عن الحب الأبدي، صارت عنوانًا لقصة حب كتب عليها الموت حتى قبل أن تبدأ.
قس على ذلك الكثير من الجمل الحوارية التي نكتفي منها هنا بعبارة بليغة تقولها السيدة العجوز للشاب الذي يصف محبوبته بتعبير إنجليزي شائع يعبر به عن قيمة محبوبته الغالية في نفسه، فتجيبه المرأة بنظرة حزينة حكيمة: "الحب يكلف أكثر كثيرًا من المال، إنه يكلفك كل شيء أيها الشاب".
البنية السردية والانفتاح وفراغات السرد:
على أساس الحبكة القصصية التقليدية تم بناء الفيلم، حبكة ثلاثية الفصول؛ الفصل الأول مقدمة تعرض الشخصيات والبيئة الزمانية والمكانية، والثاني يمثل المواجهة والثالث يمثل قمة الصراع، ثم الحل النهائي. بناء شبيه بأي فيلم طويل تقليدي، لكنه منضغط زمنيًا:
أولًا: بنية السيناريو منغلقة، ببداية القصة الواضحة ونهايتها الحاسمة التي تكشف عن الحكمة الأخلاقية من الفيلم: "هناك قصص حب بائسة، مدمرة؛ يجب أن تبقى ميتة".
ثانيًا: تتعدد المحاور السردية التي تمتد من نقطة البداية إلى النهاية؛ هناك محور سرد رئيس يمثل صراع الشاب من أجل الحصول على خاتم زواج باهظ الثمن لتقديمه للفتاة التي يحبها، وهناك الفتاة التي تظهر في المشهد الثاني من الفيلم، وفي هيئة شبح بعد منتصف الفيلم في نقطة تحول درامي، ثم نراها في مشهد التعرف الأخير(أي أن وجودها يمتد كمحور سردي فرعي من البداية للنهاية)، وهناك أيضًا الجملة التي يتلوها السارد في مفتتح الفيلم بصيغة ويأتي تطورها إلى صيغة ختامية آخر الفيلم، ففي البداية يقول الراوي بصوت عميق مؤثر:
"بينما بعض قصص الحب يكون الحديث عنها ذا معنى، فقصص أخرى من الأفضل أن تظل مدفونة".
ثم في الختام يقول بنفس الصوت القوي، مع ازدياده حكمة:
"بلى، بعض قصص الحب يحسن تركها مدفونة، وبعض أخر يحسن تركه ميتًا".
هذه الجملة تفتتح السرد وتغلقه.
في مقابل هذا الأساس المنغلق لبناء القصة، يهرب صانع الفيلم جاكوب هامبلين Jacob Hamblin من خلال نقاط منفتحة تكسب فيلمه مزيدًا من القدرة التعبيرية، بدءًا من توظيف شكل الحكايات المصورة الموجهة للأطفال، من خلال رسوم متحركة أشبه بخيال الظل أو صور حكايات صندوق الدنيا، وهو أسلوب وظفه التليفزيون في بداياته لإنتاج قصص الأطفال التي تشبه قصص الجدات قديمًا، بما يشكله ذلك من مخاطبة حنين المشاهد لمرحلة طفولته، مما يوافق ذكريات كثير من البشر في مختلف الثقافات المدنية المعاصرة، يأتي ذلك فيما قبل التترات كمشهد جذب Hook افتتاحي، مع توظيف صوت الراوي الذي يختصر كثيرًا من الأحداث التي قد يستغرق عرضها في شكل مشاهد حية زمنا طويلًا من الفيلم، لا يسمح به أمد الفيلم القصير، هذه الأحداث وقعت قبل بداية الفيلم وهي أساسية لفهم أحداثه وأفعال الأبطال خلاله.
هناك أيضًا انفتاح بصري متمثل في توظيف الأبيض والأسود، والإضاءة التعبيرية التي تذكر المشاهد بأفلام الرعب القديمة، وحتى إن لم يكن من هؤلاء الذين شاهدوا هذه الأفلام فإن هذا الشكل البصري يثير شغفه بالماضي ويحفز مخيلته لإنتاج تصورات تسهم في إضفاء حالة أسطورية على الأحداث.
الأبيض والأسود يجرد الأحداث من واقعيتها، ويفسح مجالًا لاندماج المتفرج في فكرة الواقع الموازي الذي لا يُشترط أن ينطبق عليه نواميس الواقع الحي المعروف، فيمكن للميت أن يتأثر بأفعال الأحياء فينهض وينتقم، ويمكن للأحياء أن يتفاعلوا معه فيهاجمونه أو يقاومونه دون حاجة لتفسير منطقي.
أيضًا مساحات الظلال الكبيرة في الكادر ساهمت في خلق مسرح شاسع لخيال المتلقي الذي يملأ تلك الظلال بمعرفته وبخيالاته الناتجة عن جهله بما قد يوجد فيها، فراغات بصرية متروكة لفعل المتلقي وتفاعله مع القليل الذي تكشفه البقع الضوئية المحدودة على الشاشة، هذه التقنية أيضًا ساعدت مدير التصوير جاكسون دين أهلاندر Jackson Dean Ahlander في تصويره الصراع والمطاردات في المقابر بالأسلوب القديم لتصوير النهار لإنتاج مظهر الليل أو ما يعرف عادة ب Day for Night، وهو ليس فقط اختيارًا فنيًا بل حل تقني أيضًا لإضاءة مساحة أرض المدافن الكبيرة الأشبه بغابة هائلة بتجهيزات إضاءة محدودة.
أيضًا هناك انفتاح صوتي نجد أمثلة له بداية من الموسيقى التصويرية التي تسهم بقوة في تأكيد الأجواء الأسطورية، كما أن مشهدًا كاملًا هو مشهد حرس المقابر الليليين وحوارهم حول الفتاة المقتولة، وجدلهم حول الخرافات والخوف والشجاعة، ثم مطاردتهم للصوص وإطلاق النار عليهم، كل ذلك تابعناه دون أن يظهر في لقطة واحدة على الشاشة من خلال تراك الصوت.
لدعم قصر الزمن الفيلمي، نجد الفراغات السردية تؤدي دورها باقتدار بين محاور سردية لا تتقدم حتى النهاية مثل محور السيدة العجوز التي تودع زوجها المتوفى وتعطي نصائحها للشاب المحب وتختفي بعد ذلك أو البائع الفضولي الذي يحكي للشاب قصة الفتاة ومجوهراتها الملعونة ولا يظهر مرة أخرى، هناك أيضًا فراغات على المحاور الممتدة من البداية للنهاية مثل محور الحانوتي العجوز والعروس المرتقبة اللَّذَيْن يختفيان في منتصف الفيلم تمامًا ثم يعودان للظهور في المشهد الأخير.
الزمان والمكان أيضًا يؤكدان الانفتاح ويتركان مساحة من الفراغ البنائي لخيال المتلقي، فما يخلق إحساسك بالزمان والمكان هو الديكور والملابس والحوار والإضاءة والاكسسوار، وهذه العناصر تتضافر لتشوش قدرتك على تحديد أين وقعت الأحداث ومتى، فمثلًا بينما قد تشير الملابس والأجواء والممارسات إلى أوروبا الغربية، أو أحد مجتمعات المستوطنين الأوروبيين لأمريكا الشمالية في القرن السادس عشر أو السابع عشر، نجد طقسًا مثل وضع عملتين معدنيتين في فم المتوفى، وهو طقس روماني قديم اندثر بعد استبدال الإيمان المسيحي بالوثنية القديمة، وكان هدف أصحاب الطقس الأصلي هو منح إحدى العملتين للنوتي العجوز الذي سمي في هذه المعتقدات (خارون) أو (شارون) والذي كان يتولى نقل روح المتوفى عبر نهر (ستيكيس) إلى العالم الآخر. ورود هذا الطقس رغم أنه تأكيد على المعضلة الأساسية التي تؤرق بطل الفيلم وهي إهدار الثروات بدفنها مع الموتى، لكنه يلبس على المتلقي قدرته على تحديد العصر أو البيئة التي تحدث فيها تلك القصة. وهذا يفتح مجالًا لخياله كي يكمله.
إذا أردت رأيي فهذا ليس فيلم رعب، كما تصنفه بعض المواقع، رغم تأثره بأفلام الرعب الهيتشكوكية القديمة، وإحساسك بأنه مأخوذ عن إحدى الروايات القوطية بأجوائها القاتمة الغريبة، لكنه بالأحرى تراجيديا أخرى عن عوالم هوس المحبين، حيث لا تنتهي قصص الحب دائمًا نهاية سعيدة.
أحمد صلاح الدين طه
16 أكتوبر 2025
dedalum.info@gmail.com
لمشاهدة الفيلم كاملًا بالأسفل:

