مرحبًا بكم في ديدالوم مجمع الفنون

منصة الفن والأخبار الثقافية الرائدة

أحدث الأخبار والمقالات

‏إظهار الرسائل ذات التسميات ahmed salah eldeen taha. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات ahmed salah eldeen taha. إظهار كافة الرسائل

الأربعاء، يناير 22، 2025

الفيلم الإيطالي أمينة وخاصية انفتاح الفيلم القصير

 

Amina Serena Tondo


  الانفتاح هو خاصية مهمة- فيما يبدو لي- تسهم في نجاح الأفلام القصيرة وقد لا تكون مهمة للغاية في الأفلام الطويلة التي قد تمتاز- على عكس ذلك- بالانغلاق على نفسها، وهي رفاهية لا يملكها الفيلم القصير.


  للتوضيح؛ نستطيع أن نتخيل الفيلم الطويل ككرة تشبه الكرة الأرضية، حيث يبدأ الفيلم عند نقطة محددة على سطحها ثم يتشعب من خلال أحداثه وشخصياته ودوافعهم وصراعاتهم فيتدفق في مسارات متعددة كأنها طرق أو أنهار على السطح، تسير متوازية حينًا ومتقاطعة حينًا وربما متعرجة أو مستقيمة أو متشعبة، وقد تصعد في الفضاء ثم تنزل مرة أخرى، وقد تكون متواصلة أو متقطعة لكنها جميعًا تلتقي في آخر الأمر عند نقطة واحدة حيث تكتب: (النهاية).


  الفيلم القصير على خلاف ذلك، يسير- فيما يشبه خط الزمن أو الTime Line- مسارًا واحدًا له بداية ونهاية، لكن على مدى هذا المسار القصير توجد العديد من النقاط التشعبية التي يمكن اعتبارها بلغة عصر الإنترنت (Hyberlinks) تتفرع كشجيرات أو أشجار تختلف امتداداتها التي قد تنتهي عند نقاط محددة، أو لا تنتهي على الإطلاق في الحيز المرئي والمسموع والمتخيَل (حيز التلقي) للمشاهد، قد تمتد هذه التفريعات إلى ذاكرة المتلقي لتقتبس منها ما هو مشترك وجمعي ومعروف بالضرورة عند صانع الفيلم ومتلقيه على السواء، وقد تمتد إلى عوالم وعي المتلقي أو لاوعيه لتنهل مما لم يتخيله حتى صانع الفيلم لتنتج دلالات جديدة قد تجعل من كل حالة مشاهدة للفيلم القصير تجربة فنية متميزة لكل مشاهد على حدة قد تختلف حتى عن تجربة جاره في صالة العرض.


  للفيلم القصير مدى زمني محدود قد لا يزيد عن بضعة دقائق أو في أقصى الظروف أقل من خمسين دقيقة، لكن انفتاح هذا المدى يتيح للمتلقي عالمًا لا يقل طولا عن أي فيلم طويل، وهو ربما يكون أعمق أثرًا من كثير من الأفلام الطويلة التي تبدأ تجربة مشاهدتها والتمتع بها وتنتهي داخل دار العرض، أما الفيلم القصير المنفتح قد يحفز المشاهد على استمرار المعايشة والتفكير في غوامضه ومناقشتها مع الآخرين بعد المشاهدة بزمن طويل. لذلك يكون على صانع الفيلم إدراك ذلك للاستفادة من هذه الخاصية، وربما على منظمي عروض الأفلام القصيرة خاصة في المهرجانات أن يدركوها حتى يتركوا دقائق بين كل فيلم قصير والذي يليه (وهو ما لا يحدث عادة في جدولة عروض الأفلام القصيرة) تسمح للمتلقي بالتشبع من تجربة المشاهدة مهما كان الفيلم قصيرًا.

Amina,Serena Tondo,short,film,italian,Italy,ahmed salah eldeen taha,


  في أمينة، الفيلم الإيطالي القصير لمخرجته سيرينا توندو، نجد مثالا جيدًا لهذه الخاصية. الفيلم يتناول رحلة لفتى أفغاني (نكتشف لاحقًا أنه فتاة) تعبر الحدود من أفغانستان إلى إيطاليا مارة بإيران وصربيا حتى تصل أخيرًا وجهتها، أو بر الأمان الذي تتلقاها عنده مسعفتان بوجهين ملائكيين (إحداهما هي- في الحقيقة- المخرجة نفسها). تسألانها عن اسمها فتجيبهما (آمنة). خلال هذه الرحلة التي تستغرق ليلة أو عدة ليالٍ؛ يسير الفيلم في خط زمني بسيط متسلسل، لكن مع ذلك يتشعب مرات عديدة ليفتح الأفق أمام المتلقي عن طريق أربع مشاهد استرجاع للذاكرة (فلاش باك) من خلال رؤى بعضها أحلام غفوة إثر الإرهاق وبعضها أحلام يقظة نتيجة الألم. من خلال مشاهد الذاكرة هذه نستكتشف الحياة في قرية أفغانية، ونواجه الآمال والأحلام والبراءة المشبعة بالبهجة لدى أطفال ذلك المجتمع الذين لا يختلفون عن أقرانهم في أي مكان آخر من العالم، ثم نرى حال أسرة أفغانية ميسورة نوعًا ما، ونعرف موقف المجتمع من المرأة؛ فتاة صغيرة وامرأة ناضجة. نتعرف على قوة الأب/الرجل في المجتمع الأفغاني وسلطته والمزايا التي يتمتع بها الطفل الذكر مقابل الطفلة الأنثى، ونشهد معنى كيف يتغلب المجتمع على القيود الثقافية المفروضة على أفراده عن طريق الحيلة. رحلة تستغرقنا حتى ينكشف لنا أخيرًا موضوع الفيلم الذي هو رحلة البطلة لاكتشاف هويتها الجندرية والتعايش مع حقيقتها الجنسية الطبيعية.

Amina,Serena Tondo,short,film,italian,Italy,ahmed salah eldeen taha,


 

  يبدأ الفيلم مع مجموعة من المهاجرين غير الشرعيين الذين يقعون في أيدي حرس الحدود بين أفغانستان وإيران، وبينما يعنفهم أحد الجنود الذي يبدو أنه يريد أن يخرج منهم بغنيمة مالية؛ يحاولون الفرار كل في اتجاه بعضهم يفشل وبعضهم لا نعرف إن كان قد نجح أو فشل، لكننا نتتبع أصغرهم سنًا وأضعفهم جثمانًا فتى أمرد ينجح في الفرار ويصل بمعاونة شخص ما إلى سائق شاحنة يعمل في نقل الأطعمة بين الحدود الصربية والإيطالية الذي يوافق على نقل الفتى مقابل مبلغ من المال يتلقاه مقدمًا، فيجد الفتى نفسه داخل حاوية السيارة التي هي ثلاجة ضخمة. يصيبه الرعب في البداية لكنه لا يلبث أن يسكن ويبدأ الإرهاق والبرودة الشديدة في جعله يسترجع ذكرياته فنكتشف معه حياته التي بدت سعيدة حيث هو في بيته فتى مفضل لدى أبيه، شغوف بلعب الكرة، متفوق بين أقرانه يرتدي قميص ميسي ويحقق الانتصار لفريقه حتى فجأة تأتي المعرفة كما اعتدنا في التراجيديات لتقلب سعادته بؤسًا حيث نكتشف ويكتشف أقرانه في الملعب أنه أنثى. هو نفسه فيما يبدو لم يكن يدرك هذه الحقيقة البيولوجية. هنا تتغير إزاءه كل الحياة وتنتكس مواقف الجميع؛ أصدقاؤه يهاجمونه ويطردونه بعد أن يكيلوا له الاهانات فيما عدا صديق واحد مقرب إليه. وفي المنزل يظن أن ظهور علامات الأنوثة عليه ليس إلا تجربة جديدة يخوضها أو تخوضها، لكنه يفاجأ أنه يتم استبداله بعد أن ارتدى الملابس النسائية وتحل محله أخته الصغرى التي كانت مهمشة حتى هذه اللحظة لكن الأبوين هنا يقومان بقص شعر الأخرى ووضعها داخل حُلة صبيانية وتغيير اسمها من سميرة إلى سمير، ويصبح مسموحًا لها بالخروج إلى الملعب بصحبة (نظير) الذي كان قبل قليل الصديق الوحيد المخلص للكبرى التي كانت أحمد فأمست أمينة. الوضع الذي جعلها تشعر بالعجز والصدمة، لكن ما الحيلة؟! لم يمد لها أحدٌ يدَ العون إلا الأم التي بادرت مرغمة مقهورة على دفع ابنتها بعيدًا للهجرة، أعطتها المال وصرخت في وجهها والدموع تملأ مقلتيها: "لا تعودي إلى هنا أبدًا"، ومن هنا بدأت رحلة أمينة إلى إيطاليا حيث يمكنها أن تعيش بهويتها الجنسية الحقيقية دون أن تشعر باضطهاد (من وجهة نظر صناع الفيلم).

 

Amina,Serena Tondo,short,film,italian,Italy,ahmed salah eldeen taha,


 

  قد يشعر المتلقي بغموض في الأحداث، لا يزول إلا مع نهاية الفيلم حيث تُفسِّر صانعتُه الموضوعَ من خلال نص مكتوب في صورة تترات بَدَتْ طويلة للغاية. ربما لجأت المخرجة لهذه الحيلة المقحمة على السياق كي تكون رسالتها واضحة وفي نفس الوقت لا تسترسل في السرد السينمائي الذي قد يحتاج مدة طويلة لعرض القضية، وبالفعل سيكون مهمًا بالنسبة للمشاهد البعيد عن الثقافة الأفغانية- حتى يفهم الفيلم- أن يكون ملمًا نوعًا ما بفكرة عن ما يسمى ب (الباشا بوش).


  الباشا بوش Bacha Posh، وتنطق أيضًا بچه پوش عند بعض القوميات الأفغانية؛ هي ممارسة قديمة في بعض المناطق من أفغانستان وباكستان. تعني أن العائلة التي لم تُرزق بطفل صبي تختار إحدى بناتها فتجعلها ترتدي زي صبي وتمارس حياتها كصبي حتى تنسى تمامًا وينسى كل المحيطين بها كونها أنثى، لكن عندما تصل إلى سن البلوغ وتبدأ أنوثتها في الإفصاح عن نفسها يصبح عليها أن تعود إلى طبيعتها الجنسية التي خلقت عليها فتجد نوعًا من عدم التقبل، لا هي تستطيع تقبل حياتها الجديدة بسهولة ولا المحيطون بها بخلاف أسرتها يمنحونها فرصة لذلك؛ حيث يمنحها وضعها الأول مزايا عديدة تنسحب من تحت قدميها دفعة واحدة، بعد أن كانت تستطيع الخروج للمدرسة فتتعلم وتخرج إلى الشارع بحرية فيمكنها أن تلعب أو تعمل أو ترافق أخواتها كمَحرَم لهم. كل هذا ينتهي وغالبا يكون ذلك قبل فترة قصيرة من دخولها لتجربة الزواج. تخيل أنها بعد أن كانت تتعامل مع الصبيان كصبي مثلهم ند لهم يكون عليها أن تصبح زوجة لأحد أقرانها هؤلاء!


  غير معروف تمامًا متى بدأ وجود هذه الممارسة، البعض يرجعها إلى أيام اضطرت فيها النساء إلى ارتداء أزياء الرجال للقتال والذود عن أحيائهن في غياب الرجال، والبعض يرجعها إلى لجوء بعض النساء لارتداء زي الحرس حيث كن تقمن على حراسة الحريم لدى الملوك والأمراء. كما يعتقد آخرون أن الأمر كان حلا عمليًا لدى الأسر التي لم ترزق بصبيان خاصة في الطبقات الفقيرة التي تحتاج لإرسال أبنائها الصغار للعمل، وهناك اعتقاد أيضًا أن الأسرة التي يوجد بها باشا بوش يصبح لديها احتمال أكبر ليكون الابن القادم ذكرًا.


  لتتضح الصورة أكثر فهناك ممارسة موازية لهذه في أفغانستان تسمى باشا بازي، وفي مقابل الباشا بوش الذي هو فتاة تعيش بهوية ذكر، يكون الباشا بازي صبي يعيش بهوية أنثى، حيث يمارس الرقص في الاحتفالات وأعمال الترفيه والإمتاع ومرافقة الأغنياء مقابل المال. تُظهره بعض الصور القديمة بشعر طويل وملابس وزينة نسائية ترتبط به حتى سن البلوغ. وفي الحالتين كلتيهما (الباشا بوش والباشا بازي) يصبح من الصعب عليهما التحول المفاجئ إلى طبيعتهما، ورغم الحكايات المأساوية المرتبطة بهذه الممارسات، والمحاولات المستميتة من الحكومة الأفغانية للقضاء على تلك الظواهر المخالفة لتعاليم الإسلام، إلا أنهم لم يستطيعوا القضاء عليها تمامًا.


  قد لا تكون هذه الممارسات معروفة أو مفهومة عندنا أو عند المشاهد الغربي أيضًا. لكن هناك عدة أفلام معروفة عرضت في مهرجانات عالمية وهي متاحة على الإنترنت تناولت موضوع الباشا بوش مثل الفيلم الإيراني باران Baran إخراج ماجد مجيدي عام 2002م الذي يتحدث عن فتاة من أصل أفغاني تضطرها الظروف إلى التخفي في زي صبي لتحل محل أبيها عامل البناء الذي يصاب أثناء العمل ويكون ذلك خيارها الوحيد لتتولى مسؤولية الأسرة. والفيلم الأفغاني أسامة Osama إخراج صديق برمك عام 2003م الذي يتناول قصة عن مراهقة أفغانية بعد وفاة والدها واستيلاء حركة طالبان على الحكم تحتاج والدتها- التي كانت تعمل كممرضة- مَحرمًا (مرافقًا ذكرًا) لتتمكن من القيام بزيارات منزلية لمريض، فتدفع الجدةُ الفتاةَ للتحول إلى مظهر صبي لمصاحبة الأم والخروج للعمل لاحقًا في مطعم صغير لتوفير الطعام للأسرة، لكن لسوء حظها تفاجأ بنفسها وقد أخذت قسرًا مع صبيان البلدة الآخرين؛ لتُضم إلى معسكر تدريب عسكري تابع لطالبان. والفيلمان متاحان على الإنترنت لمن يريد فهمًا أعمق حول هذا الموضوع.


  موضوع الباشا بوش وما يرتبط به من تحول جندري هو المحور الأصلي الذي يدور حوله الفيلم، وهو موضوع غامض بالنسبة للمشاهدين حول العالم؛ الفيلم لا يزيل بدءًا هذا الغموض الذي يؤكد لنا خاصية الانفتاح في الفيلم القصير التي تكلمنا عنها، فالفيلم هنا يمتد إلى ما هو خارج أحداثه التي تتناول رحلة هروب لأحد المهاجرين من موطنه إلى وطن بديل، لكنه بعيدًا عن قضية الهجرة يمد تفرعاته الشجرية إلى تساؤلات أخرى تتعلق بتعايش المراهق أو المراهقة مع خصائصهما الجندرية والفرق بين الجندر الذي هو حالة ثقافية والجنس الذي هو بنية فيسيولوجية. ودور المجتمع والأسرة والبيئة الثقافية في زرع تصورات الإنسان عن نفسه وقدرته على التعايش مع ذاته كحالة فريدة بين أقرانه، وأيضًا كوحدة متكررة من الحالات الفريدة تُكوّن المجتمع ككل.


  سيرينا توندو المخرجة والكاتبة المشاركة والممثلة أيضًا التي تظهر في المشهد الأخير من الفيلم كمسعفة تلتقي البطلة عند وصولها إلى هدفها؛ مع ظهورها هذا تفصح للجمهور عن رسالة الفيلم بنص (طويل) مكتوب قبل التترات النهائية يلقي الضوء عن ممارسة الباشا بوش، ورسالةً من أم أفغانية عاشت في مراهقتها تجربة الحياة في زي صبي وبأسلوب الصبيان. هذا النص المقحم الذي فسر غموض الأحداث نعتبره، رغم أهميته في إيصال الرسالة؛ انقلابًا على فنية الفيلم القصير لأنه- نستطيع أن نقول- أغلق أحداثه، أوصل المشاهد إلى نقطة (النهاية) التي لن يجد سببًا بعدها للاستمرار في التفكير حول الفيلم أو طرح مزيد من التساؤلات. وبما أن الحياة اختيار، وصناعة الأفلام أيضًا خيار صانعه نستطيع أن نقول إن سيرينا توندو مالت لمفهوم الفن كرسالة بدلا من الفن كفن خالص، لكنها مع ذلك لم تغفل الاستفادة من خاصية الانفتاح في الفيلم القصير فتركت أحداثه منفتحة طوال الفيلم، ولم تلجأ إلى إغلاقها (تفسيرها) إلا مع تترات النهاية.

Amina,Serena Tondo,short,film,italian,Italy,ahmed salah eldeen taha,


المفقود والمضاف في الترجمة

  عندما تتم ترجمة نص من لغة إلى أخرى، عادة لن يكون النص المحدَث في اللغة المترجم إليها مطابقًا تمامًا للنص الأصلي وهي معضلة يواجهها دائمًا المترجمون ويحاولون التغلب عليها ومع ذلك فتلك غاية مثالية لم يصل أحدهم إليها من قبل، لأن اللغة ليست مجرد كيان مرن يمكن تحويله من صورة لأخرى، إنها حاوية تحمل في طياتها ثقافة وتاريخًا وحياة كاملة لكاتبها والمجتمع الذي نشأ فيه والعصر الذي ظهر فيه وغير ذلك. 


  فيلم أمينة الذي نستطيع أن نطلق عليه (فيلم حدود) يتناول لحظة من حياة البطلة اجتمع فيها كونها عالقة بين حدود عديدة؛ الحدود بين أفغانستان وإيران، الحدود بين صربيا وإيطاليا، الحدود بين آسيا وأوروبا، الحدود بين مجتمعين (عالَمين) كل منهما مجهول تمامًا أو غائم جزئيًا بالنسبة للآخر، والحدود بين الطفولة والبلوغ، وأيضًا الحدود بين الأنوثة والرجولة. كل هذه الحدود جعلت وستجعل هناك مساحة غير محدودة للالتباس لدى المتلقي الذي يسمع حوارات تتداخل فيها لغات عديدة: البشتوية والفارسية والإيطالية والإنجليزية والعربية أيضًا، بالإضافة إلى لغة العيون والنظرات والرموز المرئية المرتبطة ببيئة الفيلم المكانية والزمانية، وثقافة صانع الفيلم أيضًا الذي يقوم بدور الوسيط بين واقع الأحداث وعالم الفيلم والجمهور في طرف آخر، ومع كل تلك اللغات بعلاماتها وإشاراتها، دوالها ومدلولاتها؛ لن يكون تلقي الفيلم تجربة متكافئة عند جميع المتلقين، عندنا في العالم العربي مثلا لن يكون مثل أفغانستان وإيران في الشرق، كما أن المشاهد الغربي خاصة في بلد إنتاج الفيلم (إيطاليا) سيكون تلقيه مختلفًا تمامًا، وبما أننا في عصر الإنترنت، ذلك العصر الذي زالت فيه حواجز الجغرافيا واللغة، سيبقى الالتباس في أقصى صوره لأن فرص تفسير الفيلم تتعدد بتعدد مشاهديه. ومن أهم أسباب هذا الالتباس تعدد اللغات التي نسمعها تتردد في الفيلم.


  الالتباس في فهم اللغة قد يضيع بعض المعاني والمقاصد كما أنه قد يضيف أيضًا معاني لم تَجُل بخاطر صانع الفيلم، وذلك ما حدث عندما نطقت البطلة اسمها آخر الفيلم وهي بين يدي المسعفتين تسألانها عنه فتقول لهم بسعادة غامرة وكأنها تتنفس الصعداء: "آمنة"! بالنسبة للمشاهد الإيطالي مثلا سيمر عليه الاسم وكأنه لا يختلف عن اسم البطلة التي يحمل الفيلم اسمها، لكن بالنسبة للمشاهد العربي سيكون هناك فرق شاسع بين (أمينة) و(آمنة) والاسمان أصلهما عربي، ورغم أنهما اشتقاقان من مصدر واحد إلا أن الأول يعني أنها تحمل أمانة أما الثاني فيعني أنها وصلت بر الأمان.. ترديد صدى الاسمين في الذهن العربي يمثل استعارة بليغة تفسر الأحداث وتضيئها، فالفتاة التي كانت أمينة على سر أسرتها وسرها لا تبوح به لأحد وتحمله بجهد وكدّ، صارت الآن آمنة لا تخشى من أي تبعات لانكشاف السر.. اليومَ، آمنة يعني متحررة من همومها والتزاماتها الأولى.


  لكن أيضًا لا يغيب عنا أن أخطاء قراءة أمينة للقرآن وهي إلى جوار أبيها الذي يهز رأسه برضى وسعادة بمستواها في التعلُّم، لن تمر مرور الكرام على المشاهد العربي ولا حتى الأفغاني الذي يعيش في أفغانستان. يبدو أن المشاركين في الفيلم من الأفغان ليسوا وثيقي الصلة ببلدهم الأم فأصبحت ألسنهم ثقيلة في قراءة القرآن، مما يشككنا أيضًا في أنهم يتحدثون بلغة الأفغان بشكل سليم، وهو أمر لا أستطيع الحكم عليه لأنني لا أتحدث هذه اللغة، لكنني عندما زرت بلدة جبلية على الحدود بين باكستان وأفغانستان وتسنى لي أن أصلي الجمعة بين أهلها وجدتهم يجيدون قراءة القرآن بفصاحة، لذلك أشك أن يتقبل الأفغان الأصليون هذه القراءة، ومع ذلك فإن الأداء الرائع للممثلين خاصة إلهام حسين سادات (أمينة) وحسين طاهري (الأب) قد يجعلنا إلى حد بعيد نتغاضى عن هذه النقطة الجدلية، بل ربما نتعاطف مع المخرجة التي وجدت نفسها وسط هذا الملتقى الذي تتزاحم فيه كل هذه اللغات، لكنها طبيعة الموضوع.

 

Amina,Serena Tondo,short,film,italian,Italy,ahmed salah eldeen taha,

اللغة السينمائية

  يقدم لنا الفيلم قضية قد تُعتبر إلى حد بعيد شائكة، ليس لكونها سرًا أو أنها ممنوع الحديث عنها؛ لكن تخيَّل أي فيلم غربي أو ممول من الغرب بينما أحداثه تدور في الشرق، ماذا ستكون توقعات المشاهد الشرقي حياله؟! المشاهد الذي ظلت بلاده زمنًا طويلا محتلة ومقهورة ومستنزفة من الغرب، والذي عانى كثيرًا وما يزال من نظريات الأوروبيين التي صوروا أنفسهم من خلالها كنوع أرقى من البشر له حق السيادة على الكون لأن الآخرين إما أن يقبلوا التحضر بالمفهوم الغربي أو أنهم لا يستحقون الحياة. 


  دون شك سيكون المتلقي متربصًا، وستحكم مشاهدته للفيلم نظرية المؤامرة التي لن تسمح للفيلم بأن يلقى تقييمًا موضوعيًا له كفيلم وليس كقنبلة ثقافية معدة للانفجار.


  استطاعت سيرينا توندو بحذق وحرفية أن تتخطى إلى قلب المشاهد من خلال معالجتها الرومانسية وقفزها على المناطق الشائكة، وتعقبها مواطن الإنسانية في القصة التي يتجرد عندها الجميع من أردانهم الثقافية ويتحولون إلى مجرد بشر. قضاياهم وسلوكهم وحيلهم، آمالهم وأحلامهم، صراعاتهم وحتى صدماتهم. كل شيء هو حالة عامة توحد الجميع ويتراخى أمامها المتلقي مطمئنًا إلى تلك الروح البعيدة التي تتناول فكرة عامة تهم الإنسان أيًا ما كان عرقه أو لونه أو معتقده.


  وظفت سيرينا الرموز الثقافية ببراعة، فمثلا الرمان هذه الفاكهة التي تُزرع في جنوب أفغانستان بكثافة وجودة لا تضاهى، والتي تصدّر إلى أوروبا بكميات هائلة، ليس غريبًا أن توظفها في تفجير ذكريات البطلة عن وطنها وهي في طريقها إلى أوروبا، وتوظفها في إبراز أهم مرابط الأحداث والشخصيات عندما تضعنا في مقارنة بين الأختين: أمينة التي تعيش حالة الباشا بوش في زي صبي وتنادى باسم (أحمد)، وسميرة التي لا تزال ترتدي زي أنثى بشعر طويل منسدل وباسمها الحقيقي؛ فالأولى يقوم الأب بتفصيص حبات الرمان لها في كأس بلوري بينما تقوم الثانية بنفسها بتفصيص الرمان دون أن يعيرها الأب اهتمامًا إلا عندما يأمرها بإحضار الشاي فتقوم دون أن تنبس ببنت شفة بإحضار أبريق شاي وكوبين له ولأحمد/أمينة.


  كرة القدم وقميص ميسي علامة أخرى تربط المجتمع الأفغاني بالغرب، وتسهم في إبراز لحظة التحول في حياة أمينة التي تعشق كرة القدم، لكن ظهور علامات الأنوثة عليها يدمر حلمها تمامًا، نلاحظ هنا رمزية تمزيق قميص ميسي الذي ترتديه والذي يدفعها لمجابهة أقرانها من الصبيان دفاعًا عن حلمها. كرة القدم التي تختفي من تحت إبطها في مشهد تعبيري بليغ، ثم تفاجأ بأبيها يمنحها لأختها الصغرى التي احتلت توًّا مكانها كباشا بوش، ويقول لها "هذه [الكرة] لَكِ الآن".


  سورة يوسف التي يقرأها أحمد/أمينة بفخر ورمزيتها التي تشير لتفهم صناع الفيلم الكامل للثقافة الإسلامية، فاختيارها كان في محله تمامًا خاصة الآية التي قُرئت: (قالوا ياأبانا ما لك لا تأمنا على يوسف وإنا له لناصحون أرسله معنا غدا يرتع ويلعب وإنا له لحافظون) هذه الآية التي تشير إلى اللحظة الفارقة في حياة سيدنا يوسف عليه السلام، الطفل المقرب من أبيه، والمؤامرة التي حيكت له وانتهت به مهاجرًا تاركًا وطنه رغمًا عنه إلى مصر التي كانت حينها سيدة العالم، وربما يمر هنا بخاطرنا مقارنة أوروبا الحاضر بمصر الماضي كمركز للجوء ومنجى للبشر من أصقاع الأرض.


  اللحظة التي كادت الفتاة تتجمد فيها وهي داخل ثلاجة نقل الأطعمة عابرة الحدود، والقطع منها إلى لحظة ارتدائها زي فتاة للمرة الأولى، رمزية التجمد في الحالة الأولى ولحظة التجمد الاستعاري عندما تجد نفسها فقدت كل الامتيازات التي اكتسبتها وهي تمارس حياتها كصبي.


  تكنيك التصوير السينمائي جاء واقعيًا وإن كانت واقعيته تغلف تفاصيل رمزية يحسها المشاهد ويفهمها دون أن تكون زاعقة، فعلى سبيل المثال بينما تبدو الإضاءة في مشاهد رحلة هجرة أمينة واقعية مناسبة للمشاهِد الليلية، لكننا نفهم بوضوح سير الفتاة نحو منطقة مظلمة واختفاءها فيها مرة عندما تدفعها أمها للهجرة ومرة عندما تهرب من حرس الحدود الإيرانية. كذلك تبدو الإضاءة منطقية في المشهد الذي تجلس فيه أمينة مع والدها وأختها الصغرى، الأب في المنتصف وأمينة بشخصية صبي على يسار الكادر بينما الأخت الصغرى على اليسار، لكن مع هذه الواقعية الظاهرة نجد الضوء المباشر الساطع الداخل من النافذة يضيء وجهي الأب والباشابوش أمينة، بينما الفتاة الصغيرة مضاءة بالإضاءة العامة الغير مركزة الشائعة في الغرفة مما يرمز لمكانتها الاجتماعية ومكانة المرأة عامة في الأسرة الأفغانية الصغيرة.


  الموسيقى والمؤثرات الصوتية أيضًا لعبت بنفس نهج التصوير، رمزية مغلفة بالواقعية مما يجعلها سلسة سهلة الإدراك ومشبعة بالمعاني والأحاسيس في نفس الوقت.


  المونتاج من العناصر المهمة التي يجب الإشارة إليها، فقد حافظ طوال الوقت على انتقالات قوية بين المَشاهد وُظِّفَت لمَنحِها الحيوية كلُّ عناصر الصورة والصوت التي جعلت الفيلم متدفقًا بعنفوان مفعمًا بالديناميكية.


  استطاعت سيرينا توندو تقديم فيلم رقيق غني بالتفاصيل، مشبعًا بالمشاعر، له قضيته التي يوصلها بلطف من خلال نص بصري أخاذ يصل إلى القلب لأنه، كما نقول في مصر "خارجٌ من القلب".


أحمد صلاح الدين طه

الأربعاء 22 يناير 2025

dedalum.info@gmail.com

 

Amina,Serena Tondo,short,film,italian,Italy,ahmed salah eldeen taha,

Amina,Serena Tondo,short,film,italian,Italy,ahmed salah eldeen taha,

Amina,Serena Tondo,short,film,italian,Italy,ahmed salah eldeen taha,

Amina,Serena Tondo,short,film,italian,Italy,ahmed salah eldeen taha,

Amina,Serena Tondo,short,film,italian,Italy,ahmed salah eldeen taha,

Amina,Serena Tondo,short,film,italian,Italy,ahmed salah eldeen taha,

Amina,Serena Tondo,short,film,italian,Italy,ahmed salah eldeen taha,

Amina,Serena Tondo,short,film,italian,Italy,ahmed salah eldeen taha,

Amina,Serena Tondo,short,film,italian,Italy,ahmed salah eldeen taha,

Amina,Serena Tondo,short,film,italian,Italy,ahmed salah eldeen taha,

Amina,Serena Tondo,short,film,italian,Italy,ahmed salah eldeen taha,

Amina,Serena Tondo,short,film,italian,Italy,ahmed salah eldeen taha,

 

الأربعاء، فبراير 14، 2024

Lughead المفارقة التي تحبك فيلما قصيرًا

 


 
 حس سخرية لاذع يقود قصة مأساوية لتصبح عملا ممتعًا، فيلمًا قصيرًا لا يزيد عن عشرة دقائق مكثفة للغاية، لا مكان فيها لتفصيلة مجانية، ولا تنقصها أي واردة لإقناع المشاهد وحبك الأحداث.
  على خلفية من موسيقى حزينة ملؤها الشجن والعواطف الملتبسة يفتتح الفيلم علاقته بالجمهور من خلال لافتة مضيئة تشير إلى موتيل، بينما تتحرك الكاميرا إلى أسفل يملأ الكادرَ رأسُ شخص ما، نرى بدءًا ظهره حيث ينظر في اتجاه اللافتة. يملأ عنوان الفيلم الشاشة (Lughead) أو الأبله، ربما كان ظهور العنوان فوق صورة الرجل موحيًا أنه هو المقصود، قد يكون ذلك صحيحًا بعض الشيء، لكن تريث؛ الفيلم يحمل لك مفاجآت عديدة.
  يلتفت البطل إلينا فنتعرف إليه أكثر، رجل في أواسط العمر، مرتبك، يزيد من إحساسنا بتوتره صوت سيارة نجدة تلقي ضوءها الأحمر على وجهه، سرعان ما ندرك السبب (سبب التوتر) إذ تظهر أمامه فجأة فتاة حسناء في مقتبل العمر، عشرينية فيما يبدو، واثقة من نفسها تمامًا عكس الرجل الذي تناديه باسمه، فهي تعرف الاسم وإن كانت تقابل صاحبه للمرة الأولى. يسألها إن كان عليهما الذهاب لمكان ما فتجيبه بثبات: "لماذا لا نذهب إلى مكاني؟". تقول ذلك ليس من باب السؤال أو المناشدة، إن الأمر بالنسبة لها محسوم، تلقي جملتها ولا تنتظر إجابته؛ تنطلق مباشرة صوب وجهتها فلا يجد بدًا من أن يتبعها صاغرًا.
  أثناء سيرهما نكتشف الموتيل، ونلاحظ أن الجزء الذي يحوي غرفة الفتاة تحديدًا مضاء بمصباح أحمر اللون، تدعو الفتاة ذلك الغريب إلى غرفتها، وما تلبث إذ دخلت أن خلعت معطفها الذي أضفى عليها مظهرًا جادًا، وحذاءها ذا الكعب العالي (جدًا) والذي أضفى عليها هيبة أنثوية من نوع خاص؛ فهذا النوع من الأحذية يسمح للمرأة أن تنظر إلى العالم من زاوية المسيطرة، وتفرض على من ينظر إليها أن يلزم حدوده، هنا تتحول رؤيتنا لها فنكتشف الأنثى لكن بطريقة أخرى، فستانها المختصر للغاية والذي يسهب في وصف مفاتن جسدها يشي بما قد يفسر وجودها في هذه اللحظة من الدراما، كأس الشامبانيا الذي تقدمه لرفيقها ودعوتها المتدللة إياه أن يجلس قبالتها على سريرها، الظرف الذي يمنحها إياه وفيه كما يبدو مبلغ سخي من المال، كل ذلك يؤكد لنا أن الفتاة بنت ليل وهذا عملها ولو كانت المرة الأولى لها كما تذكر في حوارها معه، لكن الحوار ينقلنا فجأة إلى فهم مغاير تمامًا لنكتشف أن المرأة قاتلة محترفة وأن الرجل يؤجرها لتقتل زوجته التي لا يستطيع التخلص منها لأنهما كاثوليك، والغريب أنه -في نظر نفسه- متدين لن يطلقها أو يخونها، ولن يغير إيمانه، لكنه -فقط- سيقتلها، سيقتل زوجته التي تعذبه بلسانها السليط وتناديه دائمًا بالأبله (Lughead).
  هل يكفي ذلك التحول لإسدال ستار النهاية؟
  بدلا من الليلة الحمراء التي أوحت بها البدايات، نجد أنفسنا في وكر الاتفاق على قتل امرأة بريئة غافلة من قبل زوج أحمق!!
  الحقيقة لم يكتف صانع الفيلم المخرج والمؤلف كوري شورج  بذلك، في البدايات لم نكن عارفين بخبايا القصة بينما شخصيتي الفيلم تدركان كل شيء، الرجل يعرف أن المرأة قاتلة مأجورة وليست فتاة ليل كما تصورنا، والفتاة مدركة أنه يريد التخلص من زوجته، لكن بُعدًا آخر يضيفه صانع الفيلم، يمتد بالقصة إلى تحول إضافي، وبما أن التحول مرتبط بالمعرفة كما تقتضي قواعد الدراما الكلاسيكية، والمعرفة لا تكون إلا لشيء خفي، سر جديد نكتشف مع البطل وجوده، والسر أن زوجته (الضحية ا البريئة المحتملة) لم تكن بريئة تمامًا، بل إنها تواصلت مع نفس المرأة الفاتكة التي تجلس أمامه بوجه فاتن وعينين تلمعان ببريق المتعة وهي تكشف له الحقيقة، لقد تلقت عرضًا سخيًا من السيدة (حرمه المصون) للتخلص منه، والكأس الذي تجرعه قبل لحظة فيه سم قاتل، سريع الفتك لن يلبث أن يقضي عليه في ثوانٍ، وللمفارقة تلاحظ الفتاة وهي ترتدي حذاءها ذا الكعب العالي وتهم بالخروج أن كليهما (الزوج والزوجة) للغرابة متطابقان تمامًا في شخصيتيهما، ربما مثل القطبين المتماثلين من المغناطيس تنافرا حتى لم يطق أحد منهما بقاء الآخر على قيد الحياة.
  اعتمدت حبكة الفيلم على تقنية المفارقة، والمفارقة تقنية سردية قديمة ومتداولة، ولها مستويات عدة: المفارقة اللفظية Paradox والمفارقة الساخرة أو التغابي Irony -إذا جازت الترجمة، فمن خلال مظاهر تقودنا إلى تكوين تصورات محددة نقع في اللبس وأيضًا من خلال تغابي البطلة أو ادعاء الوقوع تحت نفس التصورات التي نتبناها تؤكد لنا وجهة نظرنا التي ما نلبث أن نكتشف أنها خاطئة مما ينشأ عنه نوع من صدمة المفاجأة والكوميديا المريرة، كوميديا تتحقق من خلال الموقف الملتبس دون أن يكون في الحدث القاسي على الأبطال (عملية اغتيال البطل) ما يدعو أو يوحي بالضحك.
  لتحقيق هذا اللبس اعتمد صناع العمل على مجموعة مما قد نسميه (التاريخ الدلالي لتفاصيل المشهد) سواء من خلال الشكل أو من خلال الحوار، تقنية تتيح تكثيف تدفق المعلومات في زمن محدود بما يلائم فيلمًا قصيرًا لا يتعدى الدقائق العشرة، بمعنى أن كل تفصيلة داخل المشهد تمر أمام عين المشاهد أو تذكر من خلال الحوار ليست فقط مجرد كلمة في سياق ما، لكن لها تاريخًا من الدلالات التي تعنيها بالنسبة للمشاهد، مثلا الموتيل كمكان طبيعي لالتقاء العشاق، حتى في الدول الغربية التي لا يجد الكثيرون فيها ضيرًا في العلاقات المفتوحة خارج مؤسسة الزواج، يبقى عندهم ذلك مقتصرًا -في أغلب الأحوال- على لقاءات تتم داخل غرف الموتيلات المؤجرة باليوم أو الأسبوع أو حتى الشهر، اللون الأحمر الحاضر في معظم لقطات الفيلم من خلال الإضاءة، أيضًا له دلالات معروفة مرتبطة بنفس الموضوع، الفستان القصير للغاية الذي تظهر به البطلة بعد النقطة الفارقة الأولى في النص، بدخولهما الغرفة ونزع كل منهما معطفه الشتوي، بينما تبدو هي في لباس كاشف، يظل هو مرتديا عدة طبقات من الملابس الصوفية، ثم تبادل كؤوس الخمر، وظرف النقود، كل شيء يحمل معاني قديمة يستدعيها المشاهد دون أن يضطر المخرج لذكرها، حتى توظيف الممثل الكوميدي Aaron Merke وهو كوميديان كندي للجمهور سابق معرفة به يوحي بالسخرية المتضمنة في المفارقة الحادثة، إنه أمر يذكرنا بمشاركة الفنان محمد هنيدي بدور غاية في المأساوية في فيلم البطل للمخرج مجدي أحمد علي بعد نجاح ساحق حققه في فيلم آخر جعل الجمهور يصنفه كنجم كوميدي، لذلك انقلبت مشاهده المؤثرة في الفيلم كبطل مقاومة شعبي يستشهد في صراع مع قوات الاحتلال من مأساة إلى إثارة موجات الضحك، لأن الجمهور الذي تعاقد على تصنيفه ككوميديان وظف وجوده في الفيلم على أنه دلالة على السخرية من الأحداث. هذا ما يمكننا اعتباره تاريخًا دلاليا للممثل نفسه، عند ظهوره يستدعي الجمهور أدواره السابقة، والتاريخ الدلالي للممثل لا يقتصر فقط على معرفة الجمهور السابقة به كشخص، بل كنموذج أيضًا، فمثلا البطل هنا بزيه وهيئته الممتلئة وتعبيرات وجهه تستدعي الكثير من الشخصيات المماثلة التي عرضتها السينما دائما كشخصية رجل كسول، خامل، يمكن خداعه بسهولة، وكذلك البطلة كنموذج للمرأة آسرة الحسن، شديدة المراوغة، هيئتها توحي بما هي عليه وتوسع دائرة تاريخ الشخصية لتشمل أشياء لا يذكرها السيناريو، ولا يعرضها الفيلم، لكن المشاهد يدركها ويتصرف على أساسها أثناء المشاهدة.
 


  نظرًا لمحدودية المكان اعتمد صانع الفيلم على الحوار الثنائي الذي تتطور الأحداث من خلاله، نقاش يدور بين البطلين، وتنتقل أو تتحول خلاله مراكز القوى من البطل إلى البطلة، في البداية عندما نتصور أن الفتاة بائعة هوى، نرى معظم اللقطات من زاوية خلف الرجل الذي يبدو مالئا الإطار، ومن خلال تكوين مثلث يرسمه اتجاه نظرته إليها نجده دائمًا أعلى منها، وفي منتصف الحوار تنتقل الكاميرا إلى الجانب فنرى البطلين داخل تكوين مثلث أيضًا لكنهما يحتلان قاعدته في مستوى ارتفاع واحد مما يوحي بالتكافؤ لحظة قبل أن ينتقل ميزان القوى لتصبح السيطرة للفتاة التي عرفنا أنها قاتلة محترفة قبل أن تصارحه أنها وضعت له السم في الكأس الذي تجرعه.
  المفارقة تقنية تم توظيفها كثيرًا في فن القصة القصيرة، وربما ذلك ما جعلها مناسبة تماما لفيلم قصير ناجح.
أحمد صلاح الدين طه
14 فبراير 2024


لمشاهدة فيلم Lughead مجانا: اضغط هنا


Translate ترجم إلى أي لغة

بحث Search

عام جديد سعيد 2025

Dedalum New Year

ديدالوم

عام جديد سعيد مليء بالإبداع والفرح!

أرشيف المدونة الإلكترونية


شرفتنا بزيارتك أنت اليومَ الزائر رقم